خليفة علي السويدي
انتماء بلا هوية، وهوية بلا انتماء... هذه هي حياة البعض في العديد من الدول. الكلام ليس لغزاً أو فلسفة، وليس فيه تناقض كما يبدو للبعض. هل الهوية تكمن في حصول الفرد على وثيقة رسمية تفيد بأنه مواطن لبلد ما؟ وهل هذا هو المهم، والذي به تضمن الدول ولاء المواطنين لها؟ الجواب بكل شك بالنفي، فالبعض يحمل أوراقاً ثبوتية تثبت انتماءه لقطر ما، لكن ولاءه في حقيقة الأمر لدولة أخرى أو فكر آخر. وهؤلاء في الكثير من الحالات يمثلون الطابور الخامس الذين تحركهم ولاءاتهم وانتماءاتهم الفكرية، والتي منها يأخذون توجهاتهم العقلية، وفي بعض الأوقات حتى برامجهم ومشاعرهم مرتبطة بذلك الانتماء أكثر من الوطن الذي يحملون وثائق رسمية تربطهم به.
بعيداً عن التنظير الذي قد لا يحبه البعض دعوني أقف معكم بعض الوقفات الواقعية: هل للانتماء جانب مادي ومعنوي؟ قبل الإجابة عن السؤال دعوني أقرب لكم الصورة، عندما تجد شاباً مواطناً يكره اللبس التقليدي للرجال في دولتي، ويميل إلى لبس الأجانب الذي يراه في التلفاز وغيره من أجهزة الإعلام، هذه مسألة مادية لا أستطيع خلالها الحكم على ولاء هذا الشاب، لكنه يعاني نوعاً من الصراع النفسي الذي قاده إلى ارتداء ثوب لم يُفصل له. مثال آخر عندما يرفض بعض الأبناء تناول الوجبات الغذائية المتداولة في المجتمع، ويصبح جدولهم اليومي في الغذاء كجدول الأجانب، فهم يصبحون على القهوة الأميركية، وفي الغداء يتناولون quot;الفاست فودquot; كما يُقال، وفي الليل يتعشون في أحد المطاعم الغربية، كل هذا وهم يستمعون إلى موسيقى quot;الروكquot; الصاخبة، والتي ربما لا يدركون كلمة مما يُغنى على وقعها، ولكن شدهم الصخب والإزعاج في هذا النوع من الفنون، لأنهم يكرهون أو لا يميلون إلى الموسيقى الكلاسيكية أو الهادئة. هذا الشاب بمثل هذه الحياة، هل نستطيع أن نراجع ولاءه لمجتمعه؟ وهل من المحتمل أن يكون في يوم ما معول هدم لعادات وتقاليد قامت عليها حضارة العرب؟
الفتاة من جانب آخر، وما أدراكم ما الفتاة، ربما لأنها الأكثر متابعة للإعلام المُشاهَد، فقد بدأت تترنح في صراع بين الهوية الوطنية ومتطلبات العولمة كما يُقال، فعندما تتفحص الثوب الذي تميل له والأكل الذي تتناوله، وحتى المكياج الذي تتغشى به، تجد أن هذه الفتاة تبحث عن لبس ترتديه لكنه ليس من أثوابنا، كما أنها في مجال الأخلاق، ترنو إلى حياة خلقية ربما تتجاوز كل الحدود التي ألفناها عند البعض، وعندما أقول البعض، فإنني لا أستطيع التعميم. هذه أمثلة لصراع الهوية من جوانب محددة، لكنها ليست الأخطر في تصوري.
فما هو التحدي الأخطر من اللبس أو الأكل أو الطرب؟ هذه كلها مظاهر تجسد نوعاً من الخلل، الذي لو وقف عند هذا الحد، لكان فيه الكفاية كي ندق جرس الخطر، لكن الأعظم من ذلك هو الولاء والانجراف الفكري، ومن الأمثلة على ذلك كراهية التحدث باللغة الوطنية. نعم فقد نشأ لدينا جيل لا يريد -أقول لا يريد- التحدث باللغة العربية، وهو قادر على ذلك لا لعيب في اللغة، ولكنها تربطه بعقلية يُعتقد أنها سر تخلفه. لقد أصبح الحديث باللغة الأجنبية علامة على النضج وحسن التفكير. وهناك عوامل كثيرة تقود الشباب لهذا الاعتقاد، لكن أهمها هو سوق العمل العالمي، الذي فرض علينا الكثير من الأمور ومنها اللغة الأجنبية التي منْ لا يحسنها لن يكون له وجود في عالم العمل. ولا عيب في أن يتقن الإنسان أكثر من لغة أجنبية، لكن المصيبة في أن تتحول اللغة من أداة تواصل مع الأجانب إلى لغة خاصة بالتفكير، هنا ترتبط هذه اللغة بالكثير من الممارسات العملية والذوقية المرتبطة بها، وعندها يطرح السؤال نفسه: هل هناك هوية بلا انتماء؟
- آخر تحديث :
التعليقات