عبد الحميد الأنصاري

حينما خاطب الله عز وجل رسوله الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله laquo;أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنينraquo; كان ذلك إيذاناً بإقرار الإسلام لحق الاختلاف.
وتعزيزاً للتعددية الدينية وضماناً قوياً أمام البشر في خياراتهم الاعتقادية والعبادية، فإذا كان الرسول الكريم ليس من حقه فرض دينه على الآخرين بالقوة إذ لا طريق أمامه غير laquo;ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنةraquo; فمن باب أولى ليس من حق أي إنسان فرض معتقده على الآخرين، ومن ناحية أخرى إذا كان الإكراه ممتنعاً فيما يتعلق بالأمور الدينية فمن باب أولى الأمور الفكرية والسياسية والاجتماعية.
وفضلاً عن ذلك فإن هناك العديد من الآيات المحكمة في كتاب الله التي تشرع لحق البشر في الاختلاف باعتبار أن هذا الاختلاف مشيئة إلهية سابقة ومرتبطة بعملية خلق الجنس البشري وأنه هو الغاية من وجودهم ولذلك فإن هذا الاختلاف سيبقى بقاء الإنسان في هذه الأرض.

يقول تعالى laquo;ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُّك، ولذلك خلقهمraquo; يقول المفسرون: خلقهم ليختلفوا ويتنافسوا من أجل اعمار الأرض وإثراء الحياة والتطور والتقدم، بل إن القرآن الكريم جعل من الاختلاف الكوني والطبيعي والإنساني laquo;نعمةraquo; وlaquo;مزّيةraquo; وقد منّ الله على عباده بقوله laquo;ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف السنتكم وألوانكمraquo;.

ويؤكد القرآن في آية أخرى أن الاختلاف وسيلة للارتقاء والتجدد والتعارف الحضاري بقوله laquo;يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفواraquo;، فيحبذ تأمل الإعجاز في كلمة laquo;التعارفraquo; التي تشمل شتى أنواع التواصل الإنساني.
وأكاد أزعم أن خلق الإنسان ومجيئه إلى هذا الكون ونزوله إلى الأرض ـ جنساً ـ مختلف عن جنسي الملائكة والشياطين، مزود بالقدرات العقلية والنفسية والبدنية التي تؤهله لحرية الخيارات ومن ثم وصفه بـ laquo;وكان الإنسان أكثر شيء جدلاraquo; كل ذلك يفرض علينا نحن ـ المسلمين ـ الإيمان العميق بـ laquo;حق الاختلافraquo; ثقافة وسلوكاً، والثمرة العملية لذلك، laquo;قبوله الآخر على علاته وكما هوraquo; في معتقده ومذهبه وطقوسه كما قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين ـ رحمه الله ـ لماذا نضيق بالاختلاف؟

إذا كان القرآن قد قرر laquo;الاختلافraquo; حقاً إنسانياً مقرراً فلماذا نضيق به ولماذا لا نتمثله في سلوكياتنا وعلاقاتنا بعضنا ببعض؟! لماذا نسمع الدعاة والمفكرين والمشايخ يكثرون من ترديد laquo;حرية الحوارraquo; وتأكيد laquo;حق الاختلافraquo; والتظاهر باحترام laquo;الرأي الآخرraquo; ـ نظرياً ـ دون أن نجد لهذه الأقوال تجسيداً ـ عملياً ـ على أرض الواقع؟ لماذا نكرر مقولة laquo;الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضيةraquo; ثم نجد أن الخلاف تحول إلى بغضاء وكراهية؟!
الخلافات الطائفية تحولت إلى مواجهات دموية والخلافات المذهبية انقلبت إلى تعصبات مذهبية، والخلافات السياسية إلى اتهامات تخوينية وتكفيرية والاختلافات الثقافية والحضارية مع الآخر الحضاري المتفوق أصبحت عداوات تصطبغ بالصبغة العقائدية.

قد لا توجد إجابة عن هذه التساؤلات، لكن أتصور أن ثقافتنا الموروثة في بعض عناصرها السائدة ما زالت تتوجس من laquo;الاختلافاتraquo; وتنظر إليها بسلبية كونها تؤدي إلى الفرقة والتشرذم والفتنة وهي أمور نهى عنها القرآن laquo;ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيناتraquo; كما حذّر منها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تنبأ بافتراق الأمة إلى laquo;73raquo; فرقة، كلها في النار إلا واحدة، مما دفع كل فرقة للادعاء بأنها laquo;الفرقة الناجيةraquo; الوحيدة والحكم على الفرق الأخرى بالنار!!
هذا على المستوى العقائدي، أما على المستوى الفقهي فقد حرص أهل السنة والجماعة على القول بأن مذهبهم هو الصحيح المتفق مع ما كان عليه السلف بينما المذاهب الأخرى ما هي إلا انحرافات عن الصراط المستقيم ولذلك كان الفقيه المنتمي للجمهور حريصاً ـ في هذا المناخ الثقافي الذي يذم الاختلاف ـ على القول بأن رأيه الفقهي يمثل laquo;الإجماعraquo; كوسيلة لإفحام الخصم المذهبي وتأثيمه.
ورغم ما قيل ولا يزال يقال من أن الاختلاف الفقهي رحمة وسعة ـ وهو حقاً كذلك ـ إلا أن الوقائع التاريخية لا تشهد له، فقد كان تعصب كل واحد لفرقته يزداد مع الأيام وتحزبه لرأيه ومذهبه يقوى بسبب النزاعات، ورغم أن الحديث النبوي شجع على الاجتهاد وأثاب عليه ـ صواباً أو خطأ ـ والاجتهاد قرين الاختلاف، إلا أن الواقع العملي جعل كل فريق يستبعد من خالفه في الرأي ويرفضه بل ويرميه في دائرة المغايرة وهي تتفاوت.

فقد تكون كفراً وزندقة أو جحوداً وشركاً أو بدعة وضلالة أو نفاقاً وفسقاً كما يقول laquo;علي حربraquo;، ولذلك يشكل عدم التسامح مع حق الاختلاف، المساحة الأعظم في تاريخنا سواء في المجال السياسي والذي كان من نتائجه مقتل الإمام الحسين رضي الله عنه واستباحة المدينة وضرب الكعبة بالمنجنيق وصلب ابن الزبير والتنكيل بأهل البيت ونبش قبور الأمويين واضطهاد الإمام مالك عندما أفتى بعدم لزوم بيعة المكره وكذلك الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي والإمام أحمد وقتل ابن جبير .. إلخ.
عدم الإقرار بشرعية الاختلاف في المجال العقائدي هو الذي جعل المعتزلة يستعدون السلطة لفرض قناعاتهم في مسألة (خلق القرآن) على الناس لدرجة اضطهاد الإمام أحمد، وعدم الإيمان بثقافة الاختلاف في المجال المذهبي هو الذي جعل بعض المتعصبين من الشافعية يقول عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ: يرمى لكلب أو حنفي، استناداً إلى ماقيل عن أن الأحناف يبيحون النبيذ، وسئل متعصب حنفي: هل يجوز للحنفي أن يتزوج امرأة شافعية؟ فقال: لا يجوز لأنه يشك في إيمانها بينما قال آخر: إنه يجوز قياساً على الكتابية، وهو الذي جعل بعض متعصبي الحنابلة يرمون بيت الفقيه ابن جرير الطبري ويسدون بابه بالحجارة.
عدم القناعة بحق الاختلاف الديني هو الذي دفع الفقيه ابن القيم إلى تأليف كتابه الضخم عن (أهل الذمة) ليقرر فيه أحكاماً تمييزية ضدهم من غير سند صحيح. عدم التسامح في شرعية الاختلاف الطائفي هو الذي جعل السلطة السياسية تمارس النبذ والتهميش والعزل والتشويه بل والقهر والسحق تجاه الطوائف الدينية الأخرى على مر التاريخ الإسلامي.
بطبيعة الحال هناك لحظات تاريخية تجسدت فيها حالات ونماذج لشرعية الاختلاف، وهناك مأثورات عظيمة مثل ما نقل عن الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) ومثله عن الإمام أبي حنيفة، ولكن تلك النماذج والمأثورات لا تشكل إلا ومضات مضيئة في سماء، ولعل أول من صادر حق الاختلاف (الخوارج) حينما لجأوا إلى السيف أسلوباً لحسم الاختلاف السياسي واستمر ذلك على توالي عصور الخلافة الإسلامية إلى يومنا هذا.
ونرى امتداداته متمثلة في نماذج عديدة في عصرنا منها الانقلاب الدموي لحماس على السلطة لحسم خلافها السياسي مع فتح، واعتصام حزب الله بمربعاته الأمنية واستقوائه بسلاح المقاومة واحتكاره للوطنية وكثرة اتهامه للأكثرية بالتخوين والعمالة.

ما ضر حماس وحزب الله لو تسامحا مع الرأي الآخر أسلوباً آخر للمقاومة وإدارة الصراع، وقس على ذلك ما يحصل في العراق والسودان ودارفور والصومال وأفغانستان وباكستان تجد أن الفرقاء إما أنهم لا يتسامحون مع حق الاختلاف أو أنهم لا يحسنون إدارة هذا الاختلاف بما يحقق المصالح المشتركة ويجنب الأوطان الخسائر البشرية والمادية، وانظر كيف تحسن إسرائيل إدارة الصراع السياسي والديني في مجتمعها لصالح قوتها ووحدتها.
لماذا لا نحسن توظيف الاختلاف وإدارته إلا وفق المعادلة الصفرية؟!

المجتمع العربي حتى الآن لا يستطيع أن يفرق بين الاعتراف بشرعية الآخرين والإقرار بسلامة معتقداتهم وصحتها ولذلك تعاني الطوائف الدينية الأخرى ـ سماوية أو وضعية ـ هضماً في حقوقها، ونموذج ذلك ما عاناه البهائيون في مصر لمدة طويلة في إجبارهم على تدوين كلمة (الإسلام) في خانة الديانة لاستخراج البطاقة الشخصية بحجة أن الأزهر وجميع علماء الدين في سائر الأديان لا يقرون بالبهائية كديانة!!
حتى سمح لهم القضاء الإداري بتدوين كلمة (أخرى) في خانة الديانة، والسؤال لهؤلاء من الذي قال لهم إن السماح للبهائيين بكتابة ديانتهم يعني الإقرار بصحتها كديانة؟! شرعية وجود الآخر والاعتراف بمعتقده وحقوقه لا يلزم إطلاقاً الإقرار بصحة معتقده، القضيتان منفصلتان تماماً، لقد تسامح المسلمون مع (المجوس) و(الزرادشت) و(الصابئة) وشملوهم بالحماية والرعاية ولم يكن ذلك نابعاً من الاقتناع بصحة معتقداتهم.