يوسف نور عوض

عندما قام العقيد معمر القذافي بانقلابه في عام ألف وتسعمئة وتسعة وستين وأطاح النظام الملكي في ليبيا كان المناخ مهيئا في العالم العربي لقبول الانقلابات العسكرية، بل كان معظم الناس يعتقدون أنها النتيجة المنطقية والمقبولة لانتهاء عصور الإقطاع والقبلية والعشائرية من أجل بدء عصر جديد، ولم يكن الناس يتوقفون كثيرا عند انجازات نظم الحكم،
لأنهم كانوا يعتقدون أن الأنظمة العسكرية تواجه عداء من البلدان التي مارست الاستعمار وهي بالتالي تحتاج إلي وقت من اجل أن تثبت نفسها وحتي تكتمل الصورة في كل البلاد العربية لكي تتحقق الوحدة، ولم يكن بالتالي هناك من يتشكك أو يتساءل حول مشروعية هذه النظم العسكرية إلا في إطار الأقليات التي كانت تناصبها العداء بسبب فقدانها لامتيازاتها. وكان الرئيس القذافي من المحظوظين في انقلابه لأنه وجد دعما قويا من الرئيس جمال عبدالناصر الذي اعتبره والرئيس السوداني السابق جعفر نميري تجديدا لشبابه.
وانطلق القذافي في طريق الفكر الثوري، وعلي الرغم من أنه جاء في فترة بدأ العالم العربي يشهد فيها تحولات بسبب تداعيات حرب عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين، فقد استمر في ما اعتبره نهجا ثوريا يعتمد فيه علي ما سماها النظرية العالمية الثالثة وهي النظرية التي تستهدف إعادة السلطة إلي الشعب علي ألا تكون هذه النظرية منحصرة في إطار العالم العربي بل تتجاوزه إلي العالم بأسره، وهذه النظرية في حقيقتها لا تطرح نظاما اجتماعيا جديدا بل تركز علي الكيفية التي تتحكم بها النخبة علي مقدرات البلاد باسم اللجان الثورية ونحو تلك من التسميات، ولم يرد القذافي أن يظهر وكأنه هو القابض علي كل الأمور في بلاده، ولذلك فقد ألقي منصب الرئاسة من الناحية النظرية ثم عاد إليه بطريق آخر حيث أصبح المسؤول الأول في الدولة ـ فقط ـ بإرادة الجماهير التي لا تستطيع عزله لأنه لا يملأ منصبا رسميا بل يستطيع أن يفعل كل شيء في البلاد بسلطة مطلقة لأنه لا يوجد أحد أو مؤسسة تقف في طريق سلطته.
ولا نريد بذلك أن نوجه نقدا شخصيا لهذا النوع من الحكم، فلا شك أن العقيد القذافي عاش في فترة كانت فيها نفوس الشباب تمتلئ بالرغبة في التحرر وكان كغيره يعتقد أن التحرك بالجيش هو الطريق الأمثل لتحقيق هذا الهدف، ولكن التحولات التي حدثت في العالم العربي وأثبتت أن الانقلابات العسكرية ليست البديل للنظم المؤسسية كانت كفيلة بأن تغير وجهة نظر جميع القادة العسكريين وتفتح أعينهم علي الحقيقة كاملة، ولكن الوجود في السلطة له منطقه الخاص به وهو منطق لا يحفل كثيرا بما يجب أن يكون بل يحفل بمنطق الاستمرار، وفي حالة القذافي فقد جعله هذا المنطق يغير مواقفه من القومية العربية إلي القومية الأفريقية ومن هذه الأخيرة إلي المجموعة المتوسطية، وإذا كان له أن يتنازل عن بعض سلطته فلتكن لابنه الذي يقوم بدور المصلح وهو المجدد الذي تؤهله ثقافته التحررية أن يواصل الطريق ولكن هذا النوع من التجديد محتكر للابن وغير مسموح به لغيره، وقد يعود الأب أيضا إلي هذا النوع من الإصلاح من أجل الاستمرار، كما حدث أخيرا عندما ألغي القذافي عددا من الوزارات وسلم سلطتها لأفراد الشعب حسب قوله انطلاقا من نظريته الجماهيرية دون أن يتوقف لحظة كي يتساءل من الذي أعطاه سلطة إلغاء الوزارات أو القيام بدور أعلي سلطة في البلاد إذا لم يكن يقوم بدور الرئيس، ولم يتوقف عند ذلك بل قرر أن يوزع دخل البلاد البالغ قدره سبعة وثلاثين مليار دولار إلي الشعب مباشرة، ولا شك أن هذه الإجراءات التي اتخذها القذافي ـ والتي هي في نظر الكثيرين تمهيد للاحتفال بالذكري الأربعينية لتوليه الحكم في العام المقبل ـ تطرح تساؤلات كثيرة، وهذه التساؤلات لا تتعلق فقط بالتوجهات الثورية للعقيد القذافي بل تتعلق في أساسها بالأسباب التي جعلت القذافي يغض الطرف أربعين عاما عن الفساد والبيروقراطية ليأتي فجأة ويكتشف أن تلك هي سمة النظام الجماهيري الذي أنشأه، فكيف تسللت البيروقراطية إلي نظام جماهيري؟ وكيف تمكنت النخب المستغلة من السيطرة علي مقادير الأمور في البلاد.
ولا شك أن مثل هذه الأسئلة تطرح السؤال الأساسي حول ما إذا كان المطلوب ليس إجراءات ترقيعية بل تفهما للكيفية التي تدار بها الدول وتنفذ بها مشاريع الاقتصاد، وليكن المنطلق هو قراره بتوزيع دخل الدولة علي المواطنين، ذلك أن مثل هذا الإجراء الذي لا يستند إلي أي أسس علمية يذكرنا بالثقافة الاشتراكية التي ظلت سائدة في العالم العربي خلال مرحلة الانقلابات العسكرية التي كان يمني قادتها الناس بتوزيع الثروة عليهم أو تمليكهم وسائل الإنتاج، وهذا توجه أثبت خطأه لأن توزيع الموارد المحدودة علي الفقراء عندما يكون نظام الدولة غائبا يؤدي بالضرورة إلي ضياع الموارد وتبديد الثروة وهذه هي علة النظم الاشتراكية والجماهيرية وهي التي تجاوزتها المجتمعات الرأسمالية التي لا تحفل كثيرا بمن يمتلك الثروة بكون الثروة موجودة في المصارف، وعلي الرغم من أن بعض الناس يمتلكونها فإن ذلك لا يؤثر كثيرا علي إمكان أن يستفيد منها كل فرد من أفراد الجمهور بكون المصارف مخولة إقراض أكثر من عشرين ضعف الموارد المودعة فيها، وهذا يحرك العملية الاقتصادية من خلال قروض الرهن لشراء المساكن أو من خلال الاقتراض لبناء المصانع أو أي عمل آخر، وبالتالي فإن الأغنياء في النظم الرأسمالية هم أغنياء اسما ولكن أموالهم تكون بالضرورة في داخل الدورة الاقتصادية التي تفيد جميع المواطنين، ناهيك بنظام الضمان الاجتماعي الذي يوفر الأمن لكل فرد في المجتمع ، وفي ظل هذا النظام لا يحتاج أصحاب الأموال لتهريب أموالهم إلي الخارج، ويختلف عن ذلك النظام الاشتراكي حيث لا تعمل المصارف بكفاءة عالية والأموال لا يملكها الأفراد، وإذا تولي شخص مسؤولية مصنع أو متجر فإن أول شيء يفعله هو أن يسرق مؤسسته ويحول مدخراته إلي خارج البلاد لتصبح خارج الدورة الاقتصادية، وبالتالي فإن قرارا مثل قرار العقيد القذافي بتوزيع دخل الدولة علي المواطنين هو تبديد لثروة الدولة وضياعها كما أن ذلك يعطي انطباعا سيئا إذ كيف يستطيع القذافي أو غيره أن يصدر قرارا يتعلق بثروة البلاد كلها دون أن تكون هناك رقابة عليه، وكيف لمن يملك مثل هذا القرار المنفرد أن يدعي أن السلطة في بلاده هي ملك للجماهير؟
فهل إذا قررت الجماهير أن تتصرف في ثروة البلاد علي هذا النحو يسمح لها القذافي بمثل هذا التصرف؟
الواقع ان المسألة هنا لا تتعلق بنظام القذافي أو قدرته علي اتخاذ القرار المطلق بل يتعلق الأمر بالواقع العربي كله وهو واقع ينتفي فيه وجود الدولة كنظام ومؤسسة وتلك هي المشكلة الحقيقية في العالم العربي، وهي مشكلة بدأت تلحق إضرارا فادحة بالمصالح العربية كما رأينا في فلسطين أخيرا حيث العالم العربي كله يقف في صفوف الأعداء ضد المصالح الفلسطينية، ولا منطق في كل ذلك سوي أن الأنظمة تعتقد أنها بهذا المسلك تحافظ علي مصالحها وتتقي الإضرار التي يمكن أن تلحق بها، وذلك وهم لأن ما نراه هو أن العالم الغربي يتمادي في إذلاله للعالم العربي كلما رأي تراجعا أو تخاذلا في مواقفه، فهل يعقل أن الذين يتولون زمام الأمور في البلاد العربية لا يدركون أنه لا إسرائيل ولا أمريكا تستطيع فرض شيء عليه تماما كما هو الحال مع إيران التي واجه رئيسها التحدي بتحد آخر ؟
ولا شك أن العالم العربي في وضع أفضل من ذلك بكثير لأن مساحته شاسعة ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تتمدد فيه كما تريد، كما أن إسرائيل ليست بتلك القوة التي تجعلها تتحدي العالم العربي علي هذا النحو لأنها تعيش في مساحة أرضية ضيقة ويحيط بها نحو أربعمئة مليون عربي لا يحتاجون إلي سلاح لو صمموا أن يستعيدوا جميع حقوقهم، ولكن العالم العربي لا يملك إرادة الصمود أو التغيير كما أن نظمه السياسية لا تعمل بطرق عقلانية متطورة لأنها لا تفكر من خلال نظام الدولة بل تفكر من منظور العشيرة والقبيلة وأخيرا من منظور النخبة والأسرة والأبناء، وما يحتاجه العالم العربي في هذه المرحلة تغيير نظرته بشكل كامل حتي لا يبدد ثرواته وحتي لا يستمر رهنا للتخلف الحضاري والفكري، ومن المؤسف أن الكثيرين يعتقدون أن التغيير قريب وقادم ولكن هؤلاء واهمون في ظل المعطيات الحديثة خاصة مع وجود نخب ربطت مصالحها بمصالح السلطة وظلت تعمل ضد مصالح شعوبها من أجل تحقيق المزايا الشخصية، وتلك أكبر العلل في نظم لم تعرف بعد ماذا يعني مفهوم الدولة الحديثة؟