فاطمة البريكي
من الصعب أن نجد رابطاً يربط بين العلم واللؤم، لأن أحدهما يبعد الآخر، ويطغى عليه إن بقي منه أثر، ولا يكاد تجتمع ـ ذهنيا ـ صفة العلم مع صفة اللؤم، ولكن يبدو أن الواقع يخالف المتوقع ذهنيا بدرجة كبيرة؛ فيمكن أن نجد بين ظهرانينا علماء جعلوا من سوء الخلق لهم سيرة ومذهبا، وآثروا أن يصلوا إلى ما يريدون بالحيلة وبأدنى أنواع الوسيلة، دون أن يروا في ذلك حرجا، لأنهم يفهمون أن ذلك حق من حقوقهم!
في السابق، حين أفكر في العلماء كنت أعتقد أن للعلم نورا يشعّ في نفس صاحبه، فيجعله شفافا نقيا، وهذا تصور ساذج جدا، يجرد الإنسان من إنسانيته، لكن من الصعب أن يتقبل المرء أن يكون العالم إنسانا (عاديا) مثله مثل أي إنسان آخر، لم يدخل قلبه علم ولا معرفة، إذ ما الفائدة من علم لا يرتقي بصاحبه، ولا يزيده ارتفاعه في سلم العلم إلا هبوطا في سلم الأخلاق؟
كيف يستطيع الإنسان أن يحتفظ بصفاته البشرية في أدنى مستوياتها بعد أن منّ الله عليه بأفضل ما يمكن أن يحصّله في حياته.. وهو العلم، الذي قد يكون علما دينيا أو دنيويا؟ هذا سؤال عجزت عن أن أجد إجابة له طوال أسبوع، أوشكتُ فيه أن أكلم نفسي لكثرة ما شغلني هذا الموضوع. كنت أفكر في تلك الحدود الفاصلة ـ التي كنت أراها أسوارا عالية شديدة الارتفاع ـ بين العالم وغيره من البشر.
فكشفت لي الأيام أن العالم قد ـ وأؤكد على كلمة قد في هذا السياق ـ يكون أقرب الناس إلى الصفات البشرية من غيره من أصحاب الاهتمامات والمهن الأخرى.. وذلك حين لا يرى حرجا في أن يكون كذلك، لأن كثيرا من العلماء الأفاضل يربؤون بأنفسهم أن يكونوا أعلى الناس رتبة في العلم، وأدناهم رتبة في الخلق.
سأتكلم هنا من وحي موقف مررتُ به خلال الأيام الماضية، أصابني بما يشبه الصدمة، وأنا أراقب حالة الانفصام الشخصي التي يعيشها بعض علماء يعدّون في مجالات تخصصاتهم من الأعلام المشار إليها بالبنان على مستوى الوطن العربي، وربما العالمي أيضا، ولكنهم لا يتحرجون في أن يكونوا بشرا يتصفون بأبشع الصفات البشرية.
سأقف في هذه السطور عند فكرتين أساسيتين، الأولى هي طبيعة رد فعل بعض العلماء تجاه سوء تصرف الأفراد أو المؤسسات معهم، وهي تختلف باختلاف الأشخاص، لكني سأتوقف عند ردود الفعل السلبية، لأنها هي التي تشوه صورة العلم والعلماء، ولن أتوقف عند ردود الفعل الإيجابية، التي يكون الحلم سيدها، لأن هذا هو الوضع الطبيعي، ولا يحتاج التوقف عنده.
والثانية هي السلوكيات الشخصية الشائنة التي تصدر عن العلماء laquo;الكبارraquo;، والتي لا تليق بمكانتهم العلمية، وتسيء إلى العلم والعلماء عموما.. سواء أسيء إليهم أو لم يُسأ إليهم. من الطبيعي أن يعرف العالم قدره، وأن ينتظر من الآخرين أن يعرفوا قدره، ومن الطبيعي أن يجد بعض العلماء سوء تقدير من قِبَل بعض الأطراف أو الجهات سواء بقصد أو دون قصد.
لكن في جميع الأحوال أرى أن على العالم أن يربأ بنفسه عن النزول إلى الحضيض الأسفل في سلم الأخلاق، وأن يحرص على أن يبقى اسمه لامعا ناصع البياض في أي موقف، لأن كل موقف يمرّ به سيأخذ مكانه في كتاب حياة هذا العالم وسيرته الشخصية، وستبقى هذه المواقف خالدة في ذاكرة الآخرين الذين سيتناقلونها من شخص لآخر، بحسنها وسيئها.
إن المواقف التي تكشف معادن الناس هي تلك التي يتعرضون لها وهم في حالة غضب، إذ لا يمكن أن يعرف شخص آخر في حالة الرضى، لأنه لن يرى منه إلا ما يسره غالبا. وإذا كانت ردود فعل العلماء ستتساوى مع ردود فعل عامة البشر.
فأي مزية تكون لهم على غيرهم إن كانوا لم يتمكنوا من أن يخلصوا أنفسهم من شوائب النفس البشرية، أو لم يهتموا بذلك، ولم يحرصوا على أن يكونوا قريبين من حدود الكمال ليس علما فقط، بل أخلاقا أيضا، وربما هذه هي الأهم، لأن الأخلاق هي مقياس الأمم.
هذا في حالة أن يُساء تقدير عالم من قِبَل شخص أو مؤسسة ما، لكن ماذا لو كانت سلوكيات بعضهم سيئة أساسا، حتى دون أن يُساء إليهم، أعتقد أن هذا هو ما يكاد يصيب شريحة العلماء عندنا في مقتل، إذ تشين سلوكيات بعضهم وتسوء حتى تجعلهم وعامة الناس سواء.
لا يكاد يفرق أحدهم بين عالم أو عامل في السلوك والأخلاق، دون أن يعني هذا انتقاص العمال، بل على العكس تماما، إلا أن صدور سلوك يكشف عن سوء خلق قد يكون مقبولا من عامل، لكن قبوله من عالم يكون صعبا جدا.
توجد أيضا فئة من العلماء الذين حولوا العلم إلى تجارة، وأصبحوا يروجون لأنفسهم ولعلومهم الحقيقية والمزعومة كما يُروَّج للسلع الاستهلاكية، ثم يظهرون انزعاجهم إن تعامل معهم الآخرون وفقا للطريقة التي قدموا بها أنفسهم، وسوقوا من خلالها لبضاعتهم، أقصد لعلومهم.
بعضهم لا يترددون في التطفل على موائد كبار القوم بشكل مباشر أحيانا، وغير مباشر أحيانا أخرى، ثم يتضايقون إن عوملوا كما يُعامل المتطفلون ـ من مثل جحا وأشعب ـ على مرّ التاريخ، مع أن السلوك واحد، وإن اختلف ظاهريا!
وبعضهم أيضا لا يتحرج من التلفظ بالألفاظ النابية التي لا تليق بصغار السن، وبغير المتعلمين، ولكنها تنزلق على لسان بعض العلماء انزلاقا يوحي بألفتهم بها ولها، كما تدلّ سرعة استحضاره لها في بعض المواقف على أنه خبير باستخدامها متى احتاج إليها.
لست أدري أي قيمة ستبقى للعلم والعلماء إذا كانت سلوكيات بعض العلماء ـ ولن أقول بعض المنتسبين إلى العلم، لأنني أقصد العلماء الحقيقيين ـ ستبقى تشوه صورة البقية، وتضعها في إطار يقبل التندر والسخرية والاستخفاف، وأي هيبة سيجدها علماء الأجيال اللاحقة.
إذا كان علماء هذا الجيل الأصليون لا يجدون أنفسهم في المكانة التي تليق بهم بعد أن شُوِّهت صورتهم على يد فئة من أبناء جلدتهم؟ ربما من الأفضل أن نبقي علاقتنا ببعض الأسماء على مستوى تلقي النص المكتوب فقط ، دون الاقتراب منهم على المستوى الشخصي، حتى لا نردد بيننا وبين أنفسنا: نقرأ للمعيدي خيراً من أن نراه!
- آخر تحديث :
التعليقات