صبحي حديدي

لا تكاد الأضواء تخفت عن إحداهن، ربما بسبب اشتداد سطوعها إلي درجات حادّة تعمي الأبصار، حتي تُسلّط من جديد علي أخري، يحدث غالباً أن تكون الأضواء ذاتها قد خفتت عنها بعد طول تركيز. قبل أقلّ من سنتين سقطت الحكومة الهولندية بعد انهيار ائتلافها الليبرالي جراء انسحاب الحزب الأصغر في التحالف، احتجاجاً علي سعي وزيرة الهجرة ريتا فردونك إلي سحب جواز السفر الهولندي من النائبة الصومالية الأصل أعيان حرسي علي. ورغم أنّ فردونك كانت تطبّق القانون بحذافيره علي نائبة يحدث أنها تمثّل الحزب الليبرالي ذاته الذي تنتمي إليه الوزيرة، خصوصاً بعد أن أقرّت حرسي علي علانية بأنها خالفت القوانين المرعية وقدّمت معلومات كاذبة في استمارة طلب اللجوء، إلا أنّ البرلمان صوّت علي قرار يطالب فردونك بإيقاف إجراءات سحب الجواز، الأمر الذي امتثلت له الوزيرة.
وما أن سئم الرأي العام الغربي (إذْ لا مناص من أن يسأم، عند نقطة ذروة ما!) اجترار حكايات حرسي علي، خصوصاً حين صفقت الباب خلفها وغادرت إلي الولايات المتحدة (لتعمل خبيرة في شؤون الإسلام لدي المعهد الأمريكي اليميني المحافظ The American Enterprise!؛ حتي حلّت محلّها في بقعة الضوء الساطع مسلمة محاربة أقدم عهداً من حرسي علي، هي البنغلاديشية تسليمة نسرين، فتفجّرت أخبارها مؤخراً في الهند كما في فرنسا والسويد، حتي لاح وكأنّ اللهيب يندلع اليوم فقط وليس قبل 18 سنة. الجديد أنّ نسرين اضطرّت إلي مغادرة الهند، التي تقيم فيها منذ ثماني سنوات، والعودة إلي منفاها في السويد بعد تهديدات بالقتل من متشدّدين إسلاميين احتجوا علي صدور سيرتها الذاتية، التي تتعرّض فيها لعلاقة النبيّ بنسائه، وتزعم أنّ الإسلام مناهض للانفتاح علي غير المسلمين.
والحال أنّ الضوء الساطع ينبعث، للمفارقة الصارخة، من منبعَيْن يُفترض أنهما علي طرفَيْ نقيض: المتدينون المتشددون، والعلمانيون الديمقراطيون! ففي الطرف الأوّل، عرضت جماعة إسلامية هندية مكافأة مقدارها نصف مليون روبية (11 ألف دولار أمريكي) لمن يقطع رأس نسرين؛ كما أصدر تقي رضا خان، رئيس مجلس الاتحاد من أجل الهند بياناً جاء فيه أنّ تسليمة نسرين تُلحق في كتاباتها العار بالمسلمين، ويجب قتلها وقطع رأسها ، مشدداً علي أنّ المكافأة لن تُلغي إلا إذا عمدت نسرين الي طلب العفو، وأحرقت كتبها ورحلت !
في الطرف الثاني، أعلنت لجنة تحكيم دولية رفيعة المستوي (تترأسها الناقدة الشهيرة جوليا كريستيفا، وتضمّ في صفوفها أمثال الكاتبة النسوية الأمريكية كيت ميلليت، والفيلسوفة الفرنسية إليزابيث بادنتر، والسينمائي والكاتب الفرنسي كلود لانزمان، والرهينة الكولومبية ـ الفرنسية إنغريد بتانكور عضوة الشرف...) منح جائزة سيمون دو بوفوار الأولي، لأنها استُحدثت في مناسبة مئوية المفكرة النسوية الفرنسية الشهيرة، مناصفة بين تسليمة نسرين وأعيان حرسي علي! وقالت اللجنة إنّ الجائزة تقدير واعتراف بجرأة وأصالة الفكر الذي تشهد عليه أعمال أعيان حرسي علي وتسليمة نسرين، في النضال من أجل حرّية الضمير والتعبير .
ثمة مقدار فاضح من النفاق يكتنف بيان الجماعة الإسلامية المتشددة وحيثيات لجنة التحكيم، سواء بسواء، مع فارق أنّ المرء لا يُدهش أحياناً من عماء التعصّب الديني بقدر ما يصعقه رياء التعصّب العلماني، وتكاد تتساوي دعوة تقي رضا خان إلي إحراق كتب نسرين مع دعوة كريستيفا إلي التصفيق لـ فكر نسرين وحرسي علي. وما يزيد الطين بلّة أنّ السلطة السياسية ـ المنتخَبة ديمقراطياً، العلمانية، وليس الاستبدادية المتدينة ـ متواطئة علي نحو ما في الطرفين: الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي اقترح أن يقوم شخصياً بتسليم الجائزة إلي نسرين أثناء زيارته الأخيرة إلي الهند قبل أسابيع، والسلطات الهندية اعتذرت عن الطلب لأنها كانت تدرك ما سيُلحقه من أذي معنوي بمشاعر 140 مليون هندي مسلم.
ومن المفزع أن تري جهة ثقافية دولية كبري أنّ أعمال نسرين تساعد علي نشر روح التسامح واللاعنف (كما جاء في حيثيات جائزة اليونسكو، 100 ألف دولار، التي نالتها نسرين سنة 2004)؛ أو أن تكون حرسي علي ناصحة موضوعية لصانع القرار الأمريكي، في شؤون الإسلام والمسلمين. الأولي روائية عادية، لا ترقي أبداً إلي إنجازات كبار روائيات وروائيي شبه القارة الهندية المعاصرين لها، من أمثال راجا راو، ونارايان، وفيكرام سيت، وكامالا ماركاندايا، وأرونداتي روي. وأمّا أبرز إنجازات الثانية فهو كتابها العذراء في القفص: صرخة امرأة مسلمة في سبيل العقل ، أحدّ أشدّ الكتب ركاكة وغثاثة وتلفيقاً واختلاقاً وتنميطاً، حيث عنف الرجل ضدّ المرأة جزء لا يتجزأ من واجبه الشرعي وفق أحكام الدين.
ولكنّ نسرين وحرسي علي خضعتا، في البلد الأمّ، إلي تنكيل إنسانيّ شرس، ومصادرة للحقّ في التعبير وحرّية الرأي، استناداً إلي فتاوي ظلامية لم تكن المؤسسة الدينية المشيخية بعيدة عنها، ولهذا فإنّ التضامن معهما في هذه السياقات واجب أخلاقي وحقوقي لا يحتمل الجدل أو المساومة. في المقابل، صار جلياً تماماً أنّ العديد من المؤسسات السياسية والدينية والثقافية الغربية تمتهن فنّ تلقّف هذه الملفات، بهدف تحويلها إلي صناعة يومية لتأثيم الإسلام، وصولاً إلي ترويج البضاعة الأكثر خبثاً: الربط الآليّ المطلق بين الإسلام والإرهاب.
هنا تنقلب الضحية إلي بوق بالأجرة، لا يعزف إلا المكرور المعاد، تحت أضواء تسطع أو تخبو... حسب طلب السوق!