طيب تيزيني
مع استتباب معطيات quot;السياسة الدوليةquot; الجديدة في إطار الخريطة الجيوسياسية العولمية انطلاقاً من العِقد الأخير للقرن العشرين، راح العالم يعيش سلسلة من الأزمات، التي ربما اخترقت كل حقول المجتمعات الراهنة. وهذا ما وعدت به quot;القرية الكونية الواحدة. وتتالت الأبحاث في الوليد الجديد، في علاماته الفارقة المميِّزة. وعلى كثافة هذه الأخيرة، كانت الممارسة العملية، الاقتصادية والعسكرية وquot;السياسيةquot; لهذا الوليد، تُمعن في ضبط وتحديد وتشخيص العلامات المذكورة. وجاء من الباحثين في العولمة في عالمها الداخلي مَنْ يتصدى لتلك المهمة المركبة بحثاً وتنقيباً؛ وكان من هؤلاء quot;كنيث والتزquot;، الذي قدّم بحثاً جديراً بقراءة دقيقة فاحصة، وهو بعنوان quot;استمرارية السياسة الدوليةquot; (نشره مترجماً مع أبحاث أخرى مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية عام 2005).
يخصص الباحث قسماً من بحثه لـquot;السياسة الدولية منذ اختفاء الاتحاد السوفييتيquot;، فيرى أن هذه السياسة تأثرت بثلاث حقائق، هي:
أولاً: الاختلال الكبير في توازن القوى في العالم. ثانياً: وجود الأسلحة النووية، ومعظمها في ترسانة الولايات المتحدة الأميركية، وانتشارها في دول جديدة. ثالثاً: انتشار الأزمات التي تجتاح العالم، وضلوع الولايات المتحدة الأميركية في معظمها بشكل مباشر أو غير مباشر. ويهمنا هنا أن نركز على quot;الحقيقة الثالثةquot; الأخيرة، ففي سياق هذه الأخيرة، يرى الكاتب أن النشاط الإرهابي لم يتوقف، ومن ثم لم يوصل إلى نهاية الأزمات، التي تبتلعها الولايات المتحدة، بل هو يقود إلى تزايدها، مِمَّا قد يعني أنه لا يجوز أن يوضع حدٌ لها، لأن ذلك إن حدث، فإنه قد يقود إلى quot;تضاؤل القوات العسكرية الأميركية وانتشارها أكثر في العالمquot;. وهذا لوحظ خصوصاً بعد الأحداث الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر. وبلغة الباحث quot;والتزquot;: quot;دفعت الأحداث المذكورة الولايات المتحدة الأميركية إلى زيادة قواتها العسكرية المتضخمة أصلاً، وإلى نشر نفوذها في مناطق من العالم لم تصل إليها قرون استشعارها بعدُquot;.
وإذا كان الأمر كذلك، فإننا آنئذ لا ندري إنْ كان هنالك مجال لاستخلاص نتيجتين اثنتين من ذلك، أما الأولى منهما، فتتلخص في المعادلة التالية وفق المنطق الأرسطي الصُّوري: كلما زادت الأزمات في العالم، وتحديداً تلك التي تقترن بالإرهاب الدولي، زادت الحاجة إلى تمدد القوات العسكرية الأميركية باتجاه مزيد من بلدان المعمورة. ذلك quot;أن جميع الدول- سواء كانت استبدادية أو ديمقراطية، تقليدية أو حديثة، دينية أو علمانية- تخشى من أن تكون هدفاً للإرهاب... وهذا هو السبب في أنه كان بوسع الرئيس بوش أن يشكل حلفاً واسع النطاق بهذه السهولةquot;. وتُفصح النتيجة الثانية عن نفسها في رسالة بعثت بها السيدة quot;كاترين أوستين فيتسquot; إلى كوندوليزا رايس ndash; وكانت الأخيرة آنذاك مستشارة الأمن في البيت الأبيض، أي بتاريخ 9 أبريل من عام 2004- قالت فيها الكلمات التالية:quot;لقد استلمتِ ما يكفيك من التحذيرات بخصوص المخاطر المحتملة ليوم 11 سبتمبر من أجل تنبيه المواطنين إلى الخطر الدائم. لقد كنتِ تعلمين هذا، ثم بقيت صامتة، والناس اليوم يفهمون جيداً أن نجاحك في شَغلك منصبَ مستشارة الأمن القومي ما هو إلا ثمرة صمتك وسلبيتك...quot;.
إن تلك الكلمات التي تحمل دلالات لا تخفى على الباحثين والكتاب-وخصوصاً منهم من يقدم نفسه باحثاً في الفكر العربي، وفي التحديات التي تواجهه- من حيث قدرتها على توجيه الأنظار إلى المثل الشعبي الشهير:quot;دود الخَلّ مِنّو وفيهquot;. لكن ما ينبغي وضعه في سياق هذا الذي نقدمه هنا، إنما يقوم على أن ما خاطبت به السيدةُ quot;فيتسquot; إنما هو خطاب يُوجَّه لأمثال Mephistorheles في دراما Faust للشاعر الفيلسوف الألماني quot;غوتهquot;، حيث يبرز ذاك بصيغة إبليس الأكبر في غواية البشر، وفي تدمير هذا العالم: ذلك العالم البعيد لا يهمني إلا قليلاً، لكنْ أولاً صدّعْ هذا العالم إلى مِزَق!
التعليقات