عمان - هافال أمين
كان عدد كبير من وجهاء الطائفة الدرزية جالسين في صالة المختارة، حيث القصر الجبلي للزعيم اللبناني وليد جنبلاط. يتواجد الزعيم الدرزي كل يوم سبت في مقره الجبلي للقاء طائفته مغادرا موقع عمله وسكنه في كليمانصو في بيروت مساء الجمعة.
كنت في بيروت للاحتفال بروايتي الجديدة quot; أحلام مصطفى البارزانيquot; الصادرة من المكتبة الدولية، ولإجراء مجموعة من اللقاءات التي قد تم الاتفاق عليها مسبقا. كان لقائي الأخير بالزعيم اللبناني وليد جنبلاط، وقد رُتب بشكل مفاجئ بحيث لم أكن مستعدا لذلك من قبل، فلم أكن قد جلبت معي إلى بيروت ملابس كافية تليق بذلك اللقاء. كنت أتباحث مع الناشر اللبناني المخضرم صاحب المكتبة الدولية أنترانيك هيلفاجيان، حول الترجمة الانكليزية للرواية في مكتبته، وهو الذي رتّب اللقاء لي بالزعيم الدرزي. وعمّا قليل تصل سيارة لتنقلني من بيروت إلى المختارة. ومن الطبيعي فإنني لا أريد أن أفوّت هذه الفرصة، ولكنني في نفس الوقت كنت مستاء من الملابس التي كنت أرتديها. دسست يدي في جيب بنطالي لكي أسرع في شراء بدلة، فلم أجد المال الكافي للقيام بتلك المهمة. انتبه أنترانيك لذلك وكان يحس بما يدور في خلدي فطلب مني أن اصحبه للخروج من هذا المأزق السخيف الذي لا بدّ منه قائلا بأن وليد بيك ممّن يحبون ارتداء الجينز، وعليه فلا بأس أن ترتدي مثله فاشترى لي واحدا من أكثر الماركات أناقة وجودة.
تنطلق السيارة مخترقة جبل الشوف بطرقه الملتوية ومنعرجاته الساحرة في صباح لبناني هادئ في الظاهر ويفور من الباطن. كان سائق السيارة شيعيا ويعمل منذ وقت طويل مع أنترانيك. وعندما سألته ونحن في طريقنا إلى المختارة فيما إذا كان منزعجا من أنه يوصلني إلى الزعيم الدرزي وهو الشيعي الموالي لزعيم حزب الله، حسن نصر الله، إلا أنه قال بكل تلقائية وصدق بأن ذلك ليس ممّا يزعجه وأنه يفهم تماما بأن الاختلاف بين الساسة حق طبيعي وأنني ككاتب وصحافي من حقي أن أقابل من أشاء.
وصلت إلى المختارة فرأيت على جانبي الطريق من تحت قصر جنبلاط عشرات السيارات حيث أصحابها يتوجّهون للقاء زعيمهم. كنت أنا الشخص الوحيد الغريب في ذلك الصباح الذي تطأ قدماه قصر المختارة. وقبل دخول القصر كان كل شخص يخضع لتفتيش أمني دقيق. اعتذر رجل الأمن لذلك الإجراء قائلا بأن ذلك ضروري من دون أن أبد أنا تذمرا، فقلت له بأن ذلك أمر طبيعي بلا شك، ثم مازحته قائلا فيما إذا وجدني كلّي حديدا! كان حاضر البديهة فقال مبتسما بأنني أتناول إذن كثيرا من الفيتامينات. ثمّ سلّمني إلى شاب ليصحبني إلى حيث يقيم وليد جنبلاط.
رأيت كل الحاضرين جالسين ما عدا وليد جنبلاط فقد كان واقفا ويمشي بخطوات بطيئة في صدارة الصالة. تقدّمت نحوه وعرّفته بنفسي وأجلسني في المقدّمة وجلس هو الآخر إلى جانبي.
أشاد بالتجربة الكردية وعاد إلى بداياتها ودور مصطفى البارزاني في تعريف الأكراد بالعالم وإيجاد دور لهم على خارطة الشرق الأوسط. quot;بعض الناس يخلطون بين الدور والدولة فيخشون بأن اكتساب الدور يعني قيام الدولة فورا، وهذا ما أدّى إلى أزمات ومشاكل في البلدان التي يتواجد فيها الأكرادquot;، قلت للزعيم اللبناني وأيّدني في ذلك. ثمّ قال بأنه التقى مرّة واحدة برئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، في المختارة. سألته إذا كانت لديه النيّة للسفر إلى كردستان فقال بأنه لا يستطيع في الوقت الحاضر لأن لبنان يأخذ كل وقته وجهده، وفضلا عن ذلك فإنه لا يريد أن يسافر فوق الأجواء السورية كما أنه لا يريد أيضا السفر فوق الأجواء التركية لأنه على حد قوله غير مرغوب لدى الأتراك، وقال مبتسما بأنه في هذه الحالة يمكن أن يسافر عبر موسكو.
كان هدف اللقاء بوليد جنبلاط أن أناقشه ولو باختصار عن مستقبل العلاقات السورية- اللبنانية، وإلى متى سيستمر هذا التنافر والجفاء بين الدولتين اللتين لا يمكن لأية منهما أن تتخلّى عن الأخرى بحكم التاريخ والجغرافية والروابط البشرية المترابطة إلى درجة يمكن تشبيهها بضفائر عذراء، وأنه قد لا يوجد مثل هذا التماثل بين دولتين في المنطقة كما يوجد بين سورية ولبنان.
quot;أنت، وليد بيك، واحد من أبرز القيادات اللبنانية ولك أن تمدّ الجسور من جديد مع سوريةquot;، قلت له ونحن نتهامس وكان الحاضرون يتكلّمون فيما بينهم ومنهم من ينظر إلينا، quot;هناك خشية في المنطقة برمّتها من التقارب السوري- الإيراني الذي أضحى تحالفا، فلكي لا يتعمّق هذا التحالف فمن الأفضل أن يكون هناك تواصل مع سورية. ومن الطبيعي فإن هذا لا يعني بأن إيران ستكون على الهامش فهي بحكم وجودها في الشرق الأوسط لها علاقات ومصالح مع الكل باختلاف الدرجة والكثافة. وهناك سبب آخر لا أعتقد بأنه يخفى عنك وهو أن النموذج العراقي لا ينفع في سورية إذا كان الهدف هو اسقاط النظام السوري القائم. هناك سببان لذلك؛ أولهما أن المعارضة السورية التي تعمل لذلك الهدف هي باهتة وهزيلة لأنها لا تملك القاعدة الشعبية المطلوبة في داخل سورية كما كانت للمعارضة العراقية التي كانت تتحرّك علنا أحيانا وتحت الأرض في كل حين، حتّى عندما كان صدّام حسين في أوج قوته وعنفوانه، وينطبق هذا القول على كل فصائل المعارضة العراقية من الشيعة والأكراد والسنّة. المعارضة الوحيدة التي تملك القوة والقاعدة في سورية هي الاخوان المسلمون بقيادة صدر الدين البيانوني، ولا أظن أن الظروف الإقليمية والدولية، وقبلها ظروف سورية نفسها تسمح بأن يكون هؤلاء البديل عن النظام السوري الموجود حاليا. كما أن النموذج العراقي يكون مأساويا فيما إذا أريد له أن يطبّق لأن العامل الجيوبوليتيكي ( الجغرافية والسياسة معا) يلعب في الوقت الحاضر لصالح سورية فهي في قلب الشرق الأوسط على حد تعبير العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، في معرض حديثه لرئيس وزراء إسرائيل الراحل، اسحق رابين. هذا يعني أن ضعضعة النظام السوري، ناهيك عن إسقاطه، تعني إخلالا غير محمود العواقب لكل الشرق الأوسط ويؤدي إلى ما هو أكبر وأخطر حيث تطغى الانفجارات بالمعنيين المادي والمعنوي في كل أرجاء المنطقة. وأنا أعتقد بأن لبنان نفسه سيكون ساحة أكبر للصراعات الإقليمية أكثر ممّا هو عليه الآنquot;. كان وليد جنبلاط ينصت إليّ باهتمام ولكنه قال حاسما بأن الصلح مع النظام السوري، وليس الشعب السوري الذي أكنّ له منتهى الحب والاحترام، لا يتحقّق ما دام هو على قيد الحياة.
رأيته كمن يفكّر في أشياء عديدة في نفس الوقت ولم أشأ أن أثقل عليه أكثر فهو الآن بين أهله الدروز في نهاية الأسبوع، فطلبت منه أن ألتقي به قريبا في مقره البيروتي في كليمانصو.
وبينما أنا في طريق العودة إلى بيروت فكّرت وأنا غارق في صمت عميق بأمور كثيرة حتى أنني قد انقطعت علاقتي نهائيا بالسجائر فكان مرافقي الشيعي يعيدني أحيانا إلى الواقع عندما كان يناولني سيجارة من عنده:
1- كان واحد من المعارضين السوريين، محمد الجبيلي، يتردد كثيرا على سورية، ثمّ استقر نهائيا في الولايات المتحدة، وقد التقيت به عدة مرات. لم يكن سوى نموذج من الصيادين في المياه العكرة بطروحاته اللاواقعية والمتناقضة. هو الآن يطرح نفسه مع غيره كقطب من أقطاب المعارضة في وقت رأيته في دمشق غير مرغوب فيه من السوريين، كما أن الجالية السورية في الولايات المتحدة التي هي بعيدة عن النظام السوري لا تميل بالمرّة إليه، والولايات المتحدة تعرف ذلك كما أكّد لي الإعلامي السوري المعروف نبيل الملحم الذي له معرفة وثيقة بجذور المعارضة السورية وصلات مع بعض أعضاء الكونغرس الأميركي. والأسماء الأخرى من المعارضة لا تختلف من قريب أو بعيد من نموذج محمد الجبيلي من أمثال فريد الغادري أو حسام الديري أو غيرهما.
2-لا شكّ أن زعيما لبنانيا بوزن وليد جنبلاط له أسبابه المنطقية في طرح مواقفه، وهو قادر على أن يفرّق بين ضرورات الفكر والسياسة في صراعات الشرق الأوسط، والذي قال لي في لحظة انفعال وغضب، وله الحق في ذلك، بأنه لا يفكّر الآن في الشرق الأوسط وإنمّا في لبنان فقط.
3-فكّرت بأن وليد جنبلاط كان يقول بأنه غير مرغوب فيه من قبل الأتراك، ولكنه في نفس الوقت هو أحد زعماء الشرق الأوسط الذين يتصدّون للنفوذ الإيراني، بمعنى عدم السماح لها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وبسط هيمنتها سواء بدافع ماضيها الإمبراطوري أو حاضرها المتنفّذ، والحال هذه فإن تركيا ضرورة لا غنى عنها في لعبة التوازن الشرق أوسطية أمام إيران.
4- يمكن للأردن أن يلعب دورا حاسما في جمع أطراف النزاع، وربّما أكثر من مصر والسعودية بسبب الالتصاق بسورية وتأثره المباشر بأي تغير فيها. ومن الطبيعي فإن أمام سورية في كل الأحوال جملة من الالتزامات والاستحقاقات لكي تزيل شبح التغير في أذهان مَن يخططون لذلك.
وصلت إلى بيروت وسألني أنترانيك كيف وجدتَ وليد بيك؟ ابتسمتُ قائلا بأن الشرق الأوسط ما يزال بخير أو يمكن أن يكون بخير فهولندي من أصل عراقي كردي يذهب إلى زعيم لبناني درزي بواسطتك وأنت الأرمني وبسيارة شيعي، أمر يدعو إلى التأمل!
- آخر تحديث :
التعليقات