علي محمد فخرو

عندما يطرح موضوع استجابة مؤسسة التعليم العربية لمطالب العولمة يتمُّ عادة التركيز علي الاستجابة لمتطلبات العولمة العلمية ـ التكنولوجية أو الأنظمة الاقتصادية المصاحبة لها من مثل تخريج قوي عاملة قادرة علي جمع المعلومات واستعمالها في حلٍّ المسائل المعقّدة أو من مثل اكتساب تلك القوي خلفية واسعة في الرياضيات والعلوم واللغات الأجنبية أو من مثل التعامل الكفؤ مع تقنيات وأساليب الإتصال كالكومبيوتر والانترنت.
في اعتقادي أن هذا تبسيط مخل لموضوع معقَّد. فإضافة لأهمية إعداد قوي عاملة تناسب حاجات اقتصاد السوق العولمي هناك حاجة أكبر لفهم طبيعة ظاهرة العولمة وجوانبها السلبية الكثيرة. لفهم ما نعنيه دعنا ننظر إلي زوايا العولمة المثيرة للقلق في واقع مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي العربية التي تحكم توجهات العولمة نشاطاتها الاقتصادية والثقافية.
في الاقتصاد هناك المنافسات الشرَّسة بين الشركات العابرة للقارات التي باسم المنافسة تساهم في إفساد ضمائر وذمم العام والخاص. هناك عقلية الرِّبح السريع التي سخَّرت ثروات البترول الهائلة لمضاربات عبثية جنونية في العقار الذي وصلت أسعاره إلي أن تكون أعلي من أسعار العواصم العالمية الكبري وأغلي من القدرة الشرائية للغالبية الساحقة من المواطنين، ولمضاربات في الأسهم ترفعها إلي أعلي القمم بدون سبب وتنزلها إلي الحضيض دون مبرٍّرات. هناك الاستهلاك المادي النَّهم الذي ترفده ماكنة إعلانية هائلة تملأ الشوارع والصحف والتلفزيونات بل وحتي الصحاري وذلك لخلق حاجات استهلاكية زائدة عن حاجات الإنسان الأساسية. هناك مدن الثراء الفاحش المحاطة بحراسة تكنولوجية بالغة التطور وذلك من أجل القادمين الزاحفين عبر البحار والمحيطات لإشباع كل متعة وكل رغبة، هذا بينما تعيش البشرية المهمَشة في مجمعات وشوارع مزدحمة وفي بيئة ملوَّثة. في هكذا اقتصاد يزداد الأغنياء غني فاحشاَ ويزداد الفقراء فقراً مدقعاً. في هكذا اقتصاد تنتقل مليارات الثروة إلي مدن ومؤسسات دول الغرب الغنيَّة لتزيدها نماءَ وغني بينما تعيش أرض العرب والإسلام القريبة وهي تستجدي الاستثمارات وتدفع الأثمان الباهظة للحصول علي فتاتها.
في السياسة هناك الدول التي تضعف أمام الشركات وتتخلَّّي عن مسؤولياتها الاجتماعية في التعليم والصحة والإسكان والعمل وتخصخصها علي نطاق واسع سريع لتخلق عالمين متناقضين: عالم الموسرين والمتمتعين بخدمات قطاع خاص متميِّز، وعالم المعوزين المكتفين بخدمات قطاع عام يزداد تواضعاً ومحدودية. هناك رجوع الاستعمار بأشكال مختلفة وهو يفجٍّر كل يوم صراعات إقليمية تخدم أهدافه الجيواسترتيجية الكبري ويستنفد طاقات المنطقة وإمكانيات مستقبلها في صراعات عبثية. وهناك مسيرة الديمقراطية المتعثرة لألف سبب وسبب، كيف لا وكل شيء يدفع بالفرد وبالمجتمع بعيداً عن السياسة.
في الثقافة هناك إعلام يقدٍّم ليل نهار ثقافة مسطًّحة حسيًّة سريعة الخطو، تدخل عقل ووجدان ونفس الإنسان بسرعة لتخرج مسرعة فتبقيه في خواء دائم قابل لاستقبال ثقافة معلَّبة لاتختلف عن الوجبات السريعة المليئة بالبقايا وبالفتات. وهكذا يموت الكتاب الجاد والمسرح الملتزم وتنزوي الموسيقي الرفيعة.
نحن أمام صورة تهيمن فيها الوسائل علي الغايات وتغيب عنها أسئلة لماذا وإلي أين، حيث لا اهتمام إلاً بالحاضر ولامعيار للتقدم إلاً صرعات التقنية، حيث الذًّات تذوب في الموضوع، حيث كل شيء يٌسلَّع ويتحول الإنسان شيئاَ فشيئاَ إلي آلة.
من سيسبر أغوار تلك الصورة الكالحة ويفضحها ويجيِّش أطفال وشباب الأمة ليقاوموها ؟ في مجتمعات يهيمن عليها إعلام بليد وتقمع فيها قوي المجتمع المدني وتتنازل العائلة عن مسؤولياتها لاتبقي إلا مؤسسة التعليم، من الروضة إلي الجامعة، لحمل تلك المسؤولية الثقيلة. وهكذا يصبح قدر مؤسسة التعليم العربية أن تقوم في آن واحد بثلاث مهام عظام : إعداد الفرد لدخول عصر الحداثة العربية ولولوج عصر العولمة ولمقاومة كل خطايا العولمة. من هنا أهمية تواجد المعلم الممتهن المثقَّف الملتزم المحارب.