محمد عاكف جمال
مرت قبل يومين الذكرى الخامسة للتاسع من أبريل يوم سقطت العاصمة العراقية بغداد على أيدي القوات الأميركية الغازية. كان ذلك اليوم مشهوداً بما حمله من صور بليغة ومؤثرة ومشاهد ذات دلالات كبيرة.
أبرزها مشهدان، الأول هو مشهد المهزوم الذي كان غائباً عن المسرح فاستعيض عن غيابه بتمثاله في ساحة الفردوس حيث قامت بإسقاطه إحدى الدبابات الأميركية بعد أن عجز العراقيون المحيطون به عن ذلك مستنفدين كل حيلهم وقدراتهم. أما المشهد الثاني فهو مشهد المنتصر، الرئيس الأميركي وهو يقف خلف منصة أقيمت على ظهر إحدى حاملات الطائرات ليعلن منها بأن مَهمة القوات الأميركية في العراق قد أنجزت.
لحظات هزت العالم ووضعت دول الشرق الأوسط في مسارات التوجس والترقب والريبة والقلق مما سيتبع هذا الحدث من أحداث أخرى جسام بعد هذا التجاوز الخطير على الثوابت في العلاقات الدولية وبعد هذا الإخلال الكبير في توازنات القوى القائمة في المنطقة والتي ربما لم تدخل بشكل واقعي في حسابات الإدارة الأميركية وهي تزج بنفسها في هذه الحرب.
المشهد الثاني يستحق التوقف عنده فإعلان الرئيس الأميركي بأن مَهمة القوات الأميركية في العراق قد أُنجزت مقولة تميزت بالتسرع والنزق وبقصر النظر أيضاً. وقد أثبتت الخمس سنوات التي تلت ذلك اليوم المشهود بأن هذه المقولة لو وضعت بالشكل التالي laquo;مَهمة القوات الأميركية في العراق قد تغيرت الآنraquo; لكانت أكثر نضجاً وعقلانية وصدقاً.
خاضت الولايات المتحدة حروباً كثيرة احتلت فيها دولاً عديدة خلال الحرب العالمية الثانية وخرجت منتصرة فقد نجحت بفعل الظروف الدولية التي صاحبت تلك الحروب على المساعدة في بناء أنظمة سياسية جديدة مستقرة ساعدت على استتباب الأمن في القارة الأوروبية. ونجحت باحتلال جزيرة غرينيدا في ثمانينات القرن المنصرم وبنما في تسعيناته في إسقاط أنظمة قائمة معادية وإحلال أخرى بديلة موالية. إلا أنها فشلت في كسب حروب أخرى في كوريا وفيتنام في خمسينات وستينات القرن المنصرم.
إلا أن حروب الألفية الجديدة، احتلال أفغانستان أولاً والعراق ثانياً، وقد يكون هنالك ثالثاً خلال ما تبقى من عمر إدارة الرئيس بوش، لم تكن فيها الولايات المتحدة موفقة. فرغم مرور أكثر من ست سنوات على احتلال أفغانستان ومجيء نظام سياسي جديد بعملية انتخابية بدل حركة طالبان لا تزال الولايات المتحدة تمارس ضغوطاً على شركائها في حلف الأطلسي لإرسال قوات إضافية إلى هناك.
أما في العراق فالوضع أعقد كثيراً، فالحرب التي خاضتها الولايات المتحدة تعتبر من الناحية الإستراتيجية فشلاً تاماً على مختلف المحاور. فهذه الحرب قد أرهقت كاهل القوات العسكرية الأميركية وأساءت كثيراً لسمعة الولايات المتحدة الأخلاقية على المستويين العالمي والإقليمي، وألحقت أضراراً جدية بالاقتصاد الأميركي فهي الأكثر استنزافاً للخزينة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية.
وكشفت هذه الحرب لأصدقاء الولايات المتحدة ولغيرهم قدراتها المحدودة التي لا تؤهلها للبقاء راعية للنظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد الذي ولد إثر انهيار الاتحاد السوفييتي. كما زعزعت هذه الحرب ثقة حلفائها بمصداقياتها ووضعت الشرق الأوسط أمام مخاطر جديدة.
المَهمة وفق مقولة الرئيس بوش قد أُنجزت فالنظام الحاكم في بغداد قد أُسقط إلا أن الولايات المتحدة قد وجدت نفسها في حالة حرب مستمرة، فالنظام الجديد الذي أفرزه الاحتلال قد فشل في تغيير الواقع اليومي السيئ الذي يعيشه المواطن العراقي مما أعطى مبرراً لأعداء الولايات المتحدة من العراقيين وغيرهم أن يسهموا في إقلاق راحة هذه الدولة الكبيرة واستنزافها على الأرض العراقية.
فبعد مرور خمس سنوات لم تحرز العملية السياسية في العراق إلا نجاحات محدودة جداً لا توازي الآمال التي عقدت عليها، وقد بين تقرير المعهد الأميركي للسلام laquo;يو أس إينستيتوت أوف بيسraquo; الذي نشر مؤخراً laquo;إن التقدم السياسي بطيء جداً وغير منتظم وسطحي والانقسامات السياسية والاجتماعية عميقة للغاية بحيث إن فرص حصول انسحاب أميركي اليوم ليست أكبر مما كانت عليه قبل عامraquo;.
لا مفر أمام الرئيس بوش وإدارته سوى الإقرار بأن فتح الأبواب للديمقراطية واستضافتها في العالم العربي يفسح الطريق لصعود الأحزاب الإسلامية إلى سدة الحكم كما حصل في فلسطين حين فازت حركة حماس وفي مصر حين عزز الإخوان المسلمون من وجودهم في البرلمان وفي العراق حيث تسيطر الأحزاب الإسلامية على العملية السياسية منذ خمس سنوات.
وهذا يخلق عقبات كبيرة أمام طموح الولايات المتحدة في إقامة تحالفات طويلة الأمد مع هذه الدول، إذ رغم أن قيادات هذه الأحزاب قد تكون على درجة مقبولة من المرونة إلا أن العلاقات معها تبقى هشة لأن قواعدها تحمل مشاعر معادية للغرب وللولايات المتحدة بشكل خاص.
ولهذا ليس من المستبعد أن تتوقف الإدارة الأميركية عن تسويق ديمقراطية النمط الغربي إلى بلدان الشرق الأوسط.
وإضافة إلى ذلك فإن بعض دول المنطقة المعادية للولايات المتحدة والمتصدية لسياساتها قد وجدت في الدعوات التي تطلقها إدارة الرئيس بوش لإجراء الانتخابات الحرة في دول المنطقة ما يخدم أهدافها، فهذه الدعوات تزعزع استقرار الأنظمة المحافظة الموالية للولايات المتحدة بالدرجة الأولى.
كما أن الحرب في العراق قد أضرت بالمساعي الأميركية التي تتعلق بتوفير فرص أكبر لنجاح المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، فقدرة الولايات المتحدة على إقامة تحالف من الدول المحافظة العربية لإنقاذ المفاوضات المتعثرة بين أريحا وتل أبيب قد أصبحت أضعف من قبل مقابل المحور المكون من حماس وحزب الله وسوريا المدعوم بقوة من قبل إيران.
وقد عززت الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وتصاعد تذمر الرأي العام الأميركي من الحرب في العراق الطموحات النووية الإيرانية، فالإيرانيون يرون أنفسهم في مأمن من هجوم أميركي على منشآتهم النووية. وفي ظل هذه الأجواء التي يرونها مناسبة يتسابقون مع الزمن لاستكمال منظومة تخصيب اليورانيوم حيث باشروا مؤخراً بنصب 6000 وحدة طرد مركزي متطورة في موقع التخصيب في ناتنز.
التعليقات