حازم صاغيّة

للمراقب، في ذكرى ثلث قرن على اندلاع الحرب الأهليّة والإقليميّة في لبنان، أن يتوقّف عند علامات كثيرة. من ذلك، مثلاً، أن عموم الكلام عن تلك الحرب لا يميّز بينها وبين الحال شبه الحربيّة كما تُعاش اليوم. وعدم التمييز هذا صحيح وخاطئ في آن.

صحيح، لأن السبب الأعمق للحرب لا يزال هو هو، على رغم اختلاف أسماء الأحزاب والقوى والجماعات الفاعلة. وذاك السبب هو، تحديداً، منع لبنان، بالاستفادة من تناقضاته الأهليّة، من أن يصبح وطناً ودولة، واستخدام تخلّفه الأهليّ لعقابه على تقدّمه المدنيّ وتثبيته، بالتالي، ساحة لصراعات المتصارعين وأهوائهم.

وعملاً بنظرة كهذه يرتدّ تضخيم الكلام في المقاومة وإسرائيل وسواهما الى خديعة معمّمة أو ما يشبه ذلك، خديعةٍ تستقوي بالإيديولوجيا خدمةً للميثولوجيا.

لكنّه خاطئ كذلك، ليس فحسب لسبب تقنيّ يتعلّق بالظروف وبأسماء الأطراف ووظائفها، بل أيضاً لأن عنصراً جديداً أضيف الى منطق الصراع إيّاه وإلى وعيه وقواه. فلئن جدّد مشروع اللادولة ذاته باغتيال رفيق الحريري، فإن مشروع الدولة، على ضعفه وقصوره ونواقصه الضخمة، وسّع قاعدتيه المحليّة والخارجيّة:

من جهة، بانضياف غالبيّة الطائفتين السنّيّة والدرزيّة إليه، معطوفاً على ارتفاع نسبة التماهي بين 14 آذار ونُوى المجتمع المدنيّ (مثقّفين بأعرض المعاني، أطباء ومهندسين على ما دلّت انتخاباتهم المهنيّة الأخيرة).

ومن جهة أخرى، باحتلال المسألة اللبنانيّة موقعاً متصدّراً في اهتمامات عربيّة ودوليّة عدّة، تشهد على ذلك، بين ما تشهد، قمّة دمشق الأخيرة. وهذا، تعريفاً، ناجم عن اتّضاح حجم الخطر انطلاقاً من laquo;الساحةraquo; اللبنانيّة، وعن أن laquo;بوسطة عين الرمانةraquo; غدت، في زمن laquo;حزب اللهraquo;، laquo;بوسطةraquo; إقليميّة تهدّد، دفعة واحدة، أمن المنطقة واقتصادها وسياساتها.

وليس من المبالغة أن يُمَثّل على هذا العامل الأخير، من بين أمثلة كثيرة، باعتذار laquo;منظّمة التحرير الفلسطينيّةraquo; غير المشروط للبنان، وظهور استجابات تبقى، على قلّتها ورمزيّتها، ذات دلالة. فأن يوقّع عدد من الوجوه المسيحيّين على اعتذار مماثل للفلسطينيّين، وأن تنشأ أجواء تصالح بين laquo;منظّمة التحريرraquo; و laquo;حزب الكتائب اللبنانيّةraquo;، وهما الطرفان اللذان باشرا حرب 1975، فهذا يشي بالكثير.

ذاك أن فئة مسيحيّة أعرض من ذي قبل بدأت تربط بين الاعتداء على مشروع الدولة والاعتداء على تركيبة المنطقة وتوازناتها، أي على منظومة الدولة - الأمّة في المشرق بمجملها وليس على الدولة - الأمّة اللبنانيّة وحدها. وتحوّلٌ مثل هذا هو أقرب الى مغادرة الوعي الريفيّ الضيّق لمصلحة إدراك ينطوي على لحظة استراتيجيّة جامعة. فليس مستغرَباً، بالتالي، لوقف هذا التحوّل، أن يستعين البعض، لسبب ولا سبب، بـ laquo;مؤامرة التوطينraquo; وأن ينفخوا في نارها.

ولم يعد المشروع السياسيّ الفلسطينيّ، في المقابل، مشروعاً لـ laquo;تحرير فلسطينraquo; انطلاقاً من لبنان، أو الأردن. أي أنه لم يعد يتّجه، حكماً وتعريفاً، للصدام بالجماعات الوطنيّة والأهليّة في بلدان الجوار التي يقيم فيها فلسطينيّون، فضلاً عن صدامه بحدود الدول وبالشرعيّات والقوانين الدوليّة. لقد غدا المشروع الفلسطينيّ يتركّز على دولة وأرض بعينهما، يسعى إليهما بقوّة العمل السياسيّ والديبلوماسيّ المضني. وفي المعنى هذا، تساوى الوعيان الوطنيّان اللبنانيّ والفلسطينيّ واستقرّا عند محطّة الدولة وطلبها. وإنّما لتخريب هذا السعي، تبذل laquo;حماسraquo; جهدها المحموم، مكمّلةً جهد أصحاب الابتزاز اللبنانيّ بـ laquo;مؤامرة التوطينraquo;.

فالمطلوب، في الحالين وفي البلدين، ألاّ تنشأ دولة. القوى تتجدّد والغرض واحد.