محمد فاضل

قبل نحو أسبوعين، كنت أحد المشاركين في مؤتمر laquo;الحوار الوطنيraquo; في البحرين الذي انعقد هذا العام تحت شعار خلاب laquo;الثوابت الوطنية فوق الانتماءات الطائفيةraquo;.

لقد دعيت للتحدث عن laquo;الصحافة والطائفيةraquo; ضمن إحدى ورش عمل المؤتمر المكرسة للصحافة والإعلام ضمت اثنين من الزملاء المتحدثين. ووسط المناقشات التي لم تخلو من تشنجات في ورش عمل أخرى، اعتقد أن أبلغ ما قيل في ذلك المؤتمر هو التساؤل الذي أطلقه الزميل إبراهيم بشمي رئيس هيئة تحرير صحيفة laquo;الوقتraquo; وعضو مجلس الشورى. قال بشمي: laquo;سمعنا من جميع المتحدثين في المؤتمر انهم ضد الطائفية (..) في الكلمات الافتتاحية وفي المداولات والنقاشات.. إذن أين المشكلة ومن هم الطائفيون؟raquo;.

انه السؤال نفسه الذي يمكن أن يوجه إلى كل من يتصدى للحديث عن الطائفية. فحتى اليوم مازالت الطائفية بنظر الكثيرين تبدو ظاهرة مستجدة وطارئة أو إحدى النتائج الكارثية للاحتلال الأميركي للعراق. لكن هل كذلك فعلاً؟ هل ظهرت الطائفية فجأة؟ وهل هي laquo;مرض عراقيraquo; أصبحنا نعاني أعراضه؟ هل ظهرت هكذا دون مقدمات؟.

بقدر مرارة الشكوى من تصاعد الروح الطائفية وتأثيراتها المقلقة والبالغة الأذى، فإن علينا أن نتذكر حقيقة أساسية: هل كانت الطائفية ستنتشر بهذا الشكل المخيف لو كنا نملك حصانة ضدها؟

نقطة البداية هي أننا لسنا محصنين، لم نكن كذلك ومازلنا أيضاً بدليل أننا لا نملك الآن سوى الشكوى والمزيد من الشكوى فقط.

أحد أهم أوجه الخلل الأكيدة هو أننا لا نمارس أي نقد ذاتي، فكرنا وخطابنا يستعصي على المراجعة أو إعادة النظر. مع خلل كهذا، من النادر أن تقرأ نوعاً من الإقرار بأن النزعات الطائفية ما كانت لتنتشر بهذه السرعة لولا أن الأرضية مهيأة لها ولولا إرهاصات طويلة سبقت استفحالها على هذا النحو المخيف الذي نعيشه حالياً.

إحدى الحقائق الأساسية في هذا الانتشار هي تلك المتعلقة بالمناخ الذي ساد العالم منذ نهاية الحرب الباردة مطلع التسعينات. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تراجعت مضامين الصراعات السياسية بكل الأشكال سواء تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية أو الصراعات الطبقية أو التحرر الوطني إلى صراعات هوية وصراع اثنيات وطوائف عبر العالم بأسره. على هذا النحو، أصبح لدينا مثال شديد الاختزال لكن بشكل غاية في الفجاجة هو المثال العراقي. ففي هذا المثال يبدو الشيعة والأكراد هم الضحايا الوحيدون لبطش النظام السابق. وعلى هذا النحو أيضاً، يتم التعاطي مع النزاع المستمر في إقليم دارفور في السودان باعتباره صراعاً عرقياً محضاً.

لكن هذا لم يستدعي أي نوع من المراجعة الذاتية ولا الالتفات إلى الأرضية المهيأة سلفاً لنزاعات كهذه. ففي غمرة الجدل المختزل على هذا النحو، يفوت الكثيرين سؤال مهم: أليس النظام الذي يخوض نزاعاً طائفياً أو عرقياً هو نفسه نظام مخفق على المستوى الوطني الأشمل بحيث لا تستثني اخفاقاته أي فئة من سكانه مهما كان انتماؤها الديني أو العرقي؟

على هذا النحو، ليس لدينا من تفسير لانتشار النزعات الطائفية سوى أهونها، إلقاء اللائمة على الخارج، دون التفات إلى مسؤوليتنا الذاتية.

يجادل آخرون بإصرار أن مناخ الإصلاحات السياسية والاتجاه نحو الدمقرطة مهما كانت درجاته، ساعد كثيراً على انتشار النزعات الطائفية. بعبارة أخرى يقول هؤلاء ان الديمقراطية مسؤولة عن انتشار النزعات الطائفية. لكن هذه حجة تستدعي التوقف لأنها لا تلحظ سؤالاً مهماً: هل كان من الممكن أن تنتشر النزعات الطائفية لولا أن هناك من يحملها أصلاً وعمل على انتشارها؟ لا ينسى هؤلاء طبعاً إضافة التأثير الهائل لشبكة الانترنت باعتبارها فضاءً مفتوحاً وجد فيه الطائفيون أداة مثلى. هذا صحيح تماماً، لكنه جواب بحد ذاته، أي أن هناك من يحمل هذه النزعات أصلاً ولم تمثل له ثورة الاتصالات سوى الوسيلة.

في المقابل، لا يجد منتقدي الطائفية مناصاً من التذكير وعقد المقارنات مع العقود التي لم تكن فيها النزعات الطائفية متسيدة إلى هذا الحد المخيف. انهم يشيرون تحديداً إلى تلك العقود التي بدأت منذ مطلع القرن العشرين الماضي وحتى نهاية العقد السابع منه. ورغم جرعات النوستالجيا في مثل هذه المقارنات، فإنها تنطوي على حقيقة مهملة تماماً في الجدل الدائر.

لقد كانت تلك هي الحقب المكروهة تماماً والتي لا تذكر اليوم إلا من باب الشماتة أو السخرية أو النقد الشديد، انها حقبة الأفكار القومية والاشتراكية التي سادت البلدان العربية في تلك العقود. نعم ثمة اخفاقات عديدة لتلك الحقبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وثمة الكثير من النقد الذي يمكن أن يوجه باستفاضة لتلك الحقب وتأثيراتها التي لا تزال مستمرة حتى اليوم. لكن النقاش على جاري الذهنية العربية يذهب إلى واحدة من أكثر سماتها تدميراً وهو منطق الكتل الصماء. هذا المنطق الذي لا يجعل من التقييم الموضوعي أو الاستقراء التاريخي سوى مفاضلة بين laquo;جنةraquo; وlaquo;نارraquo;. على هذا يسقط من التقييم أي مزايا لتلك الحقب المكروهة أو أية مكاسب حققتها تلك الحقب حتى دون تخطيط، وعلى رأسها laquo;خفوت النزعات الطائفيةraquo; مثلاً.

قد يعزى هذا إلى أجواء القمع الشديد الذي أسهم في لجم هذه النزعات، لكن الصحيح أيضاً هو أن الأجواء والأفكار السائدة في تلك الحقب كانت عاملاً شديد الأهمية في منعها. فالثابت من التجربة الإنسانية، أن الأفكار التي تسود في فترة ما تلقى القليل من المقاومة لدى الناس.

لقد كانت تلك حقب laquo;العلمنةraquo; التي لا تستدعي اليوم إلا بالهجاء المرير. لكن المفارقة واضحة: الطائفية لم تكن ظاهرة وبارزة ولم تملك أي فرصة للانتشار في حقب laquo;العلمنةraquo; المكروهة في تلك الحقب المكروهة، لكنها انتشرت الآن في الوقت الذي نلتمس فيه الديمقراطية.