جيروم شاهين

كثرت في هذه الأيام الندوات واللقاءات والدراسات والمقالات والكتب التي تعالج مسألة الحضور المسيحي في المشرق العربي. فبطاركة الشرق الكاثوليك خصصوا آخر لقاء سنوي لهم لهذه المسألة. ومنذ أيام أقيمت ندوة في دار سيدة الجبل (فتقا ـ كسروان)، بدعوة من رؤساء الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والانجيلية في لبنان، حول موضوع quot;الحضور المسيحي في لبنانquot;. وقرأنا في إحدى الصحف ملخصاً لكتاب صدر في بيروت بعنوان: quot;آخر الهنود الحمرquot;. وينتهي ملخص الكتاب بهذه العبارة: quot;لقد قضت العصابات الأميركية على الهنود الحمر في بلدهم الأصلي أميركا الشمالية، وها هي بسياساتها تقضي على آخر الهنود الحمر، من المسيحيين الأصليين في وطنهم المشرقquot;!
في الواقع، هناك موجة عارمة تجتاح لبنان والعراق من القلق والخوف على المصير تحمل سكان هذين البلدين، وبخاصة المسيحيين الى الهجرة.
هناك أسباب معروفة، وهي موضوعية، وعنيت بها الأزمة السياسية والأمنية والاقتصادية التي يتخبط فيها العراق ولبنان. ولكن، بمعزل عن هذه الأسباب، هناك أوهام تختلط ببعض الحقائق فتشكل دوافع لا تقاوم للتشاؤم واليأس والاحباط، ومن ثم لطرق أبواب السفارات الغربية طلباً لتأشيرة هجرة دائمة.
إلا أن هذه الهجرة التي تعني المسيحيين العراقيين واللبنانيين ليست حكراً عليهم وحدهم، بل انها تطال أيضاً سائر المسيحيين في المشرق العربي. كما أن الهجرة تطال أيضاً المسلمين. إذن، هي هجرة عربية تتفاقم لدى المسيحيين بوجه الخصوص.
فما هي سمات هذا الواقع التهجيري إذا صح التعبير؟
من أسباب الهجرة لدى الرأي العام الشعبي، لا سيما المسيحي، مسائل تتعلق بتقلص الحربات وباختلال في تطبيق المساواة بين فئات المواطنين إما على أساس طبقي، أو فئوي (عشائري أو عائلي)، وإما على أساس ديني ومذهبي. بينما السبب الأساسي والأول هو اقتصادي، والثاني سياسي ويتعلق خصوصاً بالصراع العربي ـ الاسرائيلي ونتائجه، وبانحسار المشروع القومي العربي وتضامن العرب حوله، وهي نتيجة يأس الفئات الشعبية الواسعة من تحقيق مطالب العدالة والديموقراطية. وإضافة الى تلك الأسباب العامة، هناك أسباب خاصة بالمسيحيين، ومنها إنكفاء دور المسيحيين مقارنة بما كان عليه قبل السبعينات من القرن الماضي. وانكفاء الدور هذا لربما يعود لعلاقة الغرب بالعالم العربي، أي ما كانت عليه هذه العلاقة. كما يعود أيضاً الى تطور العالم العربي على جميع المستويات. وبعبارة أخرى: لم يعد المسيحيون العرب جسراً ما بين الغرب والشرق.
المسألة الأكثر مدعاة للقلق هي من دون شك هجرة الشبيبة العربية، وهجرة الأدمغة العربية.
أما البلدان الأكثر معاناة من نزيف هجرة أبنائها المسلمين بعامة والمسيحيين بخاصة، فهي: فلسطين وبالأخص مدينة القدس التي يمعن الاسرائيليون في تهويدها وتهجير أهلها. حتى تكاد القدس تضم مقدسات بدون مقدسين. والبلد الآخر هو العراق، وذلك منذ أن احتله الأميركيون. إلا أن الظاهرة الأكثر مدعاة للقلق بشأن العراق هي مسألة هجرة المسيحيين، لا سيما أنهم يتعرضون لأعمال قتل وخطف وعنف وتهجير مع أنهم ليسوا طرفاً في الصراع. وآخر مثل على ذلك خطف وقتل رئيس أساقفة الكنيسة الكلدانية في الموصل. ومسيحيو العراق لهم فضل كبير على نشأة الفلسفة العربية الاسلامية. أما البلد الثالث فهو لبنان. وهجرة مسيحيي لبنان تأخذ معنى خاصاً لأنها قد تقضي على أنصع مثال للعيش الاسلامي ـ المسيحي المشترك الذي يكذب أطروحة صراع الحضارات والأديان. من هنا علت أصوات، أخيراً، لجعل لبنان، بقرار من الأمم المتحدة، بلداً نموذجياً لحوار الحضارات والأديان والثقافات. من هذا المنطلق تشكل الهجرة العربية، في آن معاً، quot;همّاًquot; وتنطوي على quot;أوهامquot;.
أما الأوهام فهناك من له مصلحة بزرعها في عقول الناس. وهناك من له مصلحة بأن لا تتبدد. وتصبح الهجرة هروباً الى الوراء ـ بالتسمر في لحظة تاريخية ـ أو الى الأمام ـ في الجغرافية البعيدة ـ وإحباطاً، وتهويلاً، وخوفاً، واغتراباً.
أما quot;الهمquot; الذي يسكننا من جراء هجرة أبنائنا فهو الذي يجب أن نأخذه على عاتقنا بكثير من الجدية. الهجرة العربية ليست قدراً محتوماً. ليست فعلاً بل ردّ فعل. فلو تضافرت جهود الفعاليات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية للحد من الهجرة، أما كانت بلداننا العربية أكثر نمواً وإنتاجاً وديموقراطية وأقل انبهاراً بمواسم الهجرة نحو الشمال؟ فمن الضروري التصدي لمسألة الهجرة العربية، كما أنه من الضروري أيضاً عدم تجاهل الهجرة المسيحية أياً كان حجم واقعها وحقيقة أسبابها. لذلك، وتحصيناً لديمومة العيش المشترك، أنقل هنا بعض ما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل بهذا الشأن، إذ قال:
quot;أشعر أن المشهد العربي كله سوف يختلف انسانياً وحضارياً، وسوف يصبح على وجه التأكيد أكثر فقراً وأقل ثراء لو أن ما يجري الآن من هجرة مسيحيي الشرق ترك أمره للتجاهل أو التغافل أو للمخاوف حتى وإن لم يكن لها أساس. أي خسارة لو أحس مسيحيو الشرق ـ بحق أو بغير حق ـ أنه لا مستقبل لهم أو لأولادهم فيه ثم بقي الاسلام وحيداً في المشرق لا يؤنس وحدته غير وجود اليهودية الصهيونية بالتحديد أمامه في اسرائيلquot;.
لا! لن يكون مسيحيو الشرق quot;آخر الهنود الحمرquot;، لأن الشراكة المسيحية الاسلامية غير المنقطعة في المشرق العربي قد جعلت المسلمين والمسيحيين شركاء في المصير الواحد والحاضرة الواحدة وبالتالي في مجابهة كل التحديات المشتركة.