علي حماده

عندما رفض رئيس المكتب السياسي لحركة quot;حماسquot; خالد مشعل من مقر اقامته دمشق تمديد الهدنة المترنحة، كان يدرك بالتأكيد انه برفضه انما يغامر بمصير مئات لا بل آلاف الارواح في قطاع غزة. ومع ذلك لم يهتز القيادي ومن معه من القادة المتحالفين مع طهران ودمشق ومضوا في قرارهم، وضع دم أهل غزة على الطاولة.
فمن يقرأ قليلا يدرك ان اسرائيل كانت تعد العدة لعملية عسكرية كبيرة ضد القطاع. وكانت المعلومات عن هذه العملية متوافرة في معظم عواصم المنطقة والعالم.
صحيح ان الهدنة لم تكن هدنة بالمعنى التقليدي للكلمة. ولكن صحيح ايضا انها بنواقصها وشوائبها، واختراقات الاسرائيليين لها من ناحية، ولعبة الصواريخ quot;الحمساويةquot; المستنسخة عن quot;حزب اللهquot; كانت افضل باشواط من المجزرة القائمة اليوم. وبسبب تورط quot;حماسquot; وquot;الجهاد الاسلاميquot; في معركة المحاور العربية، بل أكثر في الاستقطاب الايراني لمشروع الهيمنة على المشرق العربي، فقدت quot;حماسquot; تعاطفا عربيا ثمينا. فالتعاطف اليوم هو مع اهل غزة في الدرجة الاولى، اما النظرة الى quot;حماسquot; وquot;الجهادquot; فتتباين من بلد الى آخر، ومن فقئة سياسية او اجتماعية او طائفية الى اخرى. وquot;اليافطةquot; السنية التي ترفعها quot;حماسquot; ليست كافية في ظل تجييرها واقعاً سنيا فلسطينياً للاجندة الايرانية اولا، والسورية ثانيا. كما ان الاصطدام من الخارج بالحكم في مصر ليس مجزيا متى عرفت طبيعة المواطن المصري، وان معارضا، بأنه لا يمكن ان يكون تابعا لملالي ايران، او يقبل بدروس يلقيها عليه تابعون للنظام السوري او الايراني على حد سواء. فمصر بملايين فقرائها تبقى مصر محمد علي اول دولة عربية مشرقية حديثة، وجيشها يبقى اول الجيوش العربية واعمقها تراثا من محمد علي وصولا الى انور السادات وحسني مبارك.
لقد ارتكبت اسرائيل مجزرة في حق ابناء غزة. نعم. وفي المستوى نفسه ارتكبت quot;حماسquot; خطيئة بتصورها على خطى تجربة quot;حزب اللهquot; انه يمكن التضحية بمئات لا بل بآلاف الغزاويين كي تبقى الحركة وتدوم وتكمل في منافستها على التحكم في القرار الوطني الفلسطيني. فاندفعت صوب حرب مع اسرائيل، ما كان الايرانيون يريدونها الا لمزيد من الاختراق للمجتمعات العربية، ولمحاصرة الشرعيات العربية التي وقفت وتقف في وجه quot;التفريسquot; السياسي للمنطقة العربية.
فمن يقرأ جيدا في quot;حماسquot; يعرف ان النظام في سوريا يسير في مفاوضات جدية مع اسرائيل، وانه لن يرفع اصبعا لنصرة اهل غزة. واكثر من ذلك يعرف ان العامل الوحيد الذي انقذ حكم الرئيس بشار الاسد من الانهيار عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، هو التدخل الاسرائيلي الحاسم لدى الاميركيين والاوروبيين، من اجل تحويل المعادلة من quot;تغيير النظامquot; الى تغيير في quot;سلوك النظامquot;! هذا يعرفه خالد مشعل الدمشقي جيداً. اما ايران في تجربتها اللبنانية فتتعايش مع المظلة الاسرائيلية الموضوعة فوق رأس الحكم في سوريا، وتدفع عام 2006 حزبها في لبنان الى افتعال حرب مع اسرائيل كلفت اللبنانيين 1300 ضحية بريئة، وخمسة آلاف جريح، و30 الف وحدة سكنية، ومليارات الدولارات خسائر في البنى التحتية التي هي ملك للشعب اللبناني بأسره وليست لفئة منه. وعلى رغم انتهاء الحرب باعلان الامين العام لـquot;ـحزب اللهquot; السيد حسن نصرالله quot;النصر اللهيquot; فان لبنان بشعبه، بمسلميه الشيعة والسنة والدروز والمسيحيين، على اختلافهم دفع ثمن مغامرة quot;حزب اللهquot; التي انتهت بعد اشهر عدة الى تحول البندقية نحو الداخل، اي نحو صدور اللبنانيين. وما زلنا حتى اليوم نعاني مرارة احتلال وقمع داخليين! يفترض ذلك ان نتساءل عن الهدف الحقيقي الكامن وراء حرب تموز 2006، وهل كانت خطوة لازمة للسيطرة على لبنان لاحقا؟
يعرف قادة quot;حماسquot; في قرارة انفسهم انهم في هذه الحرب وقود لحرب اخرى، ضد مصر والسعودية آخر القلاع العربية المانعة لنجاح مشروع الهيمنة الآتي من طهران. ويدركون على رغم وقوع اسرائيل في ورطة كبيرة ان اعلانهم quot;النصر اللهيquot; في نهاية العمليات العسكرية لن يمحو آثار المغامرة التي دفع ثمنها اهل غزة.
والسؤال هنا: هل من محاسبة؟ أم ان الامر سينتهي مثلما انتهى في لبنان بقيام quot;حزب اللهquot; باجتياح الشرعية الوطنية للافلات من محاسبة النسبة الاكبر من اللبنانيين له؟ ولعل الانضباط الذي يمارسه الحزب المذكور حيال ما يحدث في غزة نابع من معرفة السيد حسن نصرالله انه هذه المرة قد لا يجد كثيرين في لبنان يقفون بجانبه، خصوصا بعد الغزوات الميليشيوية التي نفذها ضد مواطنيه.
نعم ان اسرائيل في ورطة. لكن هذا الواقع يجب الا يحجب عنا رؤية الورطة الكبيرة التي وقعت فيها quot;حماسquot; بدءا بالتورط في الحرب، وصولا الى التورط في حرب ايرانية ndash; سورية ضد quot;النظام العربيquot;، وعليه لا بد من البحث في مخارج واقعية لما يحصل. فهل يكون المخرج بهدنة طويلة الأمد، مع ضمانات وقوة دولية على المعابر، وعودة الى حظيرة الشرعية الفلسطينية في الداخل انقاذا للمشروع الوطني الفلسطيني من براثن الوحش الاسرائيلي، واستنقاذا للفلسطينيين من التبعات الكارثية للمشروع الايراني للهيمنة على المشرق العربي؟
وفي مطلق الاحوال، كما كانت حرب تموز خطأ مهد لخطيئة الانقلاب والغزوات في ايار 2008، فان حرب غزة سنة 2009 هي خطيئة كبرى مهدت لها خطيئة انقلاب غزة عام 2007.
اما من نهاية لهذا النفق العربي المظلم؟