مالك التريكي

لا تزال إسرائيل وفية لعادتها في منع وسائل الإعلام من دخول المناطق التي تشن عليها عدوانها، ولكني لم أسمع طيلة الأسبوع الماضي أي حوار مع أي مسؤول أو متحدث حكومي إسرائيلي في الإذاعات والتلفزيونات الغربية تضمّن ولو سؤالا وحيدا حول سبب خوف الحكومة الإسرائيلية من الإعلام إذا كانت واثقة أن ما ترتكبه في غزة لا يدخل في نطاق الجرائم الوحشية. في المقابل لم أسمع أي حوار مع أي من هؤلاء الإسرائيليين إلا صدّره الصحافي بالقول: 'لا أحد ينكر طبعا حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولكن...' أو نحو ذلك من العبارات التي تكرس الإجماع على أن إسرائيل، بعربدتها الإجرامية الجهنمية في غزة، إنما هي في حالة دفاع عن النفس (طبعا دون ذكر، بل دون علم، من الصحافي بأن إسرائيل هي التي خرقت الهدنو).
ويكمن سبب تكرر هذا السيناريو في سطحية العادات الذهنية التي تحدد إدراك معظم الإعلام الغربي للنزاع العربي الإسرائيلي، وهي عادات لَطالما كتب إدوارد سعيد وخطب بهدف التنبيه إليها والتحذير مما تنطوي عليه من سذاجة سياسية وكسل مهني. ومن هذه العادات المانعة لمجرد القدرة على الفهم عادة الركون لأمان الاعتقاد الشائع بأن إسرائيل دولة متحضرة بل خيّرة، وأنها دولة عاقلة بل عقلانية. إذ لا يستطيع الإعلامي الغربي غير المختص أن يتذكر، مهما أجهد الذاكرة، أنه سبق لإسرائيل أن كانت البادئة بأي عمل عسكري. فإسرائيل، تعريفا وتحديدا، دولة لا تبدأ بالهجوم. هي دولة تردّ فقط. تُستفز فترد... مع ما يعنيه هذا من تعذيب الضمير طيلة الفترة السابقة على الرد الذي لا تريده أصلا.
دولة عقلانية مسالمة ما بِساستِها من حاجةٍ إلى التنافس على الفوز بلقب الزعيم الأكثر تشددا وقسوة في التعامل مع الفلسطينيين، ولا يخطر ببال وزير حربيتها أو وزيرة خارجيتها أبدا جعل محرقة غزة وسيلة للدفاع عن النفس.. الانتخابية، وعن حظها في الانتصار الشهر المقبل على نجم النجوم الليكودي. دولة منصرفة إلى شؤونها الديمقراطية الفُضلَى وإلى شجونها التكنولوجية الجُلَّى، دولة منشغلة بجمال الحياة الذي شغفها حبا (على عكس شعوب أخرى تعشق 'ثقافة الموت')... وبينما هي كذلك بين سِلم وعلم وبين اهتمام بطلبات الأطفال وانكباب على ورود الحديقة، إذْ بأقوام لاعقلانيين ولا باع لهم في فنون الحِجاج المنطقي (أفلا ترى كيف لا يحسنون التكلم بالإنكليزية على الإذاعة والتلفزيون؟) يأتون من اللامكان ويأخذون بلا أدنى سبب في رشق دولة الروح الديمقراطي المطلق بالحصى والصواريخ إلى حد ترويع الأخيار والأبرار وقطع حبل أفكار آلاف مؤلفة من المواطنين الصالحين المنهمكين في حفظ أبيات 'إعلانات' مبادرة السلام العربية عن ظهر قلب.
أما السيناريو الملازم في هذا التناول الصحافي فهو الانتقال إلى السؤال عن مدى تعاون إسرائيل مع المجتمع الدولي في مجال تسهيل وصول إمدادات الإغاثة الغذائية والطبية إلى المتضررين من القصف (الذي هو بطبيعة الحال مجرد رد على الاستفزاز ومجرد حالة من حالات 'من أنذر فقد أعذر')، فيرد المتحدث: صدقوني أن إسرائيل تبذل قصارى الجهد لتخفيف معاناة المدنيين ولتسهيل إغاثة الضحايا، ولكن أشرار 'خماس' يحتمون بالمدنيين ويختبئون وسط التجمعات السكانية، فقولوا لنا بربكم ماذا عسانا نفعل؟
وبهذا تتحقق الغاية الإسرائيلية التي نبهت إليها الأستاذة في جامعة هارفارد سارة روي مؤلفة كتاب 'السلام الفاشل: غزة والنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي'، وهي أن إسرائيل قد انتهجت سياسة الحصار ضد غزة منذ 2007، ثم أحكمتها بإغلاقه منذ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، لأنها لا تريد أن ينظر المجتمع الدولي إلى فلسطينيي القطاع إلا باعتبارهم 'مجرد مشكلة إنسانية، أي متسولين ليست لهم هوية سياسية ولهذا فلا يمكن أن تكون لديهم مطالب سياسية'. بل إن تسيبي لفني استكثرت عليهم حتى هذا الوضع عندما نفت، من باريس، وجود أي أزمة إنسانية في غزة أصلا!
أما على الجانب العربي، فإن الأمور قد بلغت من العقلانية الموزونة بميزان الذهب حدا أصبحت معه الأمة مطمئنة إلى أن أحدا لن يجرؤ على أن يغمطها حقها في حرية الاختيار بين الانضمام إلى حزب ان لا صوت يعلو فوق صوت القمة، أو حزب أن الأهم من القمة هو ضمان نجاحها سلفا بجميع الوسائل، بما فيها وسيلة عدم عقدها.