محمد الرميحي

التعاطف مع أهلنا في غزة هو تحصيل حاصل، فلا يوجد عربي أو مسلم أو إنسان لديه ذرة مما تحمله الإنسانية من معنى، إلا ويرى في استخدام القوة الفَظّة من جانب إسرائيل عملا بربريا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بل هو إرهاب الدولة ذات العضلات العسكرية.

هذا الشجب يجب ألا يغنينا عن التفكير في أمر ما يحدث من وجهة نظر سياسية. ولكن قبل الدخول في الموضوع أريد أن أضرب أمثلة تقرّب الصورة؛ فالموسوعة البريطانية تقول لنا، تعريفا بتاريخ الإرهاب في الشرق الأوسط، إن أول من قام به هي عصابات الهاغانا وشتيرن الصهيونية التي عملت على إرهاب المواطنين العرب وإخراجهم من بلادهم. إلا أن تلك العصابات لم تكن تعمل في جهاز الدولة الإسرائيلية، حتى بعد أن نشأت إسرائيل. وفي إيرلندا الشمالية التي شهدت حرب عصابات أخرى، وسمّتها الدولة البريطانية الإرهاب، كان هناك جناحان: عسكري يقوم بعمليات، وسياسي يضطلع بالعمل السياسي والتفاوض وجمع الأنصار والمال، ولم يكن بينهما ظاهريا أي ارتباط!

وحتى لا نظل بعيدين، فإن الدولة اللبنانية لو شنّت حربا ضد إسرائيل، لكان مبررا للأخيرة، على الأقل عالميا، أن تقوم بهدم لبنان من أقصاه إلى أقصاه، بذريعة أن كل شيء مباح في الحرب، خصوصا أن لديها إمكانيات الآلة العسكرية، وبالتحديد الطيران، إلا أن حزب الله في لبنان لم يكن جزءا من الدولة عندما احتدمت معركة صيف العام 2006، وهكذا حاربت إسرائيل ومازالت تحارب حزب الله بطرق مختلفة، إلا أنها لا تجد مبررا واحدا أمام الرأي العام العالمي لمهاجمة لبنان، كل لبنان.

الدرس واضح للعيان، في حروب التحرير، كما في فيتنام وغيرها، هناك جناح للمقاومة وآخر للعمل السياسي، ومنه المفاوضة. ولو قُدّر للإخوة الفلسطينيين شيء من الوعي السياسي، مقرونا بقدر من الشجاعة، ومخلوطا بفهم واضح لما يجري في العالم، لكان جناح المقاومة (حماس أو الجهاد أو أي جناح آخر) يعمل في المقاومة بعيدا عن العمل السياسي، الذي يجب أن يكون على مسافة من جبهة القتال، ويحاول بكل السبل السياسية تأمين دعم سياسي محلي وإقليمي ودولي لقضيته، أي توزيع الأدوار لبلوغ الغايات نفسها.

كل حروب المقاومة التي قرأتُ عنها في التاريخ الحديث تبنت هذه الفكرة، إلا الإخوة الفلسطينيين، فالجميع يريد الدنيا والآخرة معاً، وفي الوقت نفسه، ويريد أن يحكم ويقاوم بالسلاح في الوقت ذاته. وليس هناك حتى الآن تأصيل في الأدبيات الفلسطينية بأن المقاومة قد تكون مؤثّرة أيضا في العامل السياسي!

كان على الإخوة في حركة حماس والإخوة في حركة فتح أن يقسّموا العمل النضالي فيما بينهم، واحدة تحكم وتتعامل مع العالم ومستجداته ومطالبه، وأخرى تقاوم دون أن نعرفها أو يعرف وجوهها العالم، إلا أن الاثنتين أبتا إلا أن تتقاتلا على أرض محتلة لم تتحرر، وفي وجه عدو يسعده أن يتسع الشق وأن يتقاتل الطرفان، وهو ما يقدم خدمة جليلة للعدو، بوعي أو بلا وعي.

تلك هي الغصّة في نفوسنا، وفي نفس كل عاقل فطن، عربي أو غير عربي، يتعاطف مع هذه القضية الكبرى، ويستنكر ويشجب نهر الدم الذي تقوم بإراقته إسرائيل من مواطنين عزّل تقريبا، إذا قارنّا ما لديهم من سلاح بهذه الترسانة الحديثة من الأسلحة.

التفكير العاقل يقود إلى أنه حتى في حروب التحرير، فإن التوقيت واختيار الأعداء، مهمّان بأهمية الهدف المراد تحقيقه، ويبدو أن التوقيت الذي اختاره الإخوة في حماس قد جانبهم فيه الصواب، عندما قرروا عدم تمديد laquo;التهدئةraquo; مع إسرائيل، وهي مفهوم ملتبس أصلا، بينما تتحضر إسرائيل للانتخابات، وكل انتخابات تحتاج إلى مزايدين، ولا أفضل من هذا التوقيت بالنسبة لإسرائيل، كما أن الإقدام على فتح النار على مصر العربية هو عملية سياسية عمياء أيضا.

وتطبيقا للتفكير اللا عقلاني، ما إن اندلعت العمليات العسكرية في غزة حتى تدفق نهر التشفّي والمزايدات، وفتحت جبهات لا حصر لها في laquo;المَكنةraquo; العربية الإعلامية، بعضنا ضد بعض، بروح جاهلية لا نظير لها، كما علا الصراخ في المنتديات العربية، كلٌّ يوظف هذا الجحيم الذي يتساقط على رؤوس أهلنا في غزة، من أجل هدف في جبهته محدود سياسيا يتكسّب منه. والأنكى من ذلك، أن يجري الاعتماد كله على ذاكرة عربية ضعيفة أو متلاشية، فأعضاء في البرلمان الفلسطيني من الجانبين يتظاهرون دعوة لرأب الصدع بين الإخوة الأعداء، حماس وفتح ومناصريهما، ويعتقدون أن الجميع قد نسي اتفاق مكة، ووثيقة صنعاء، والجهد الذي صرفه العرب من القاهرة إلى الرياض إلى غيرهما من العواصم، من أجل دفع الطرفين للتخلي عن التقوقع في جلدة التحزّب، ولحثهما على التحلي ببعد النظر وترجيح مصالح المواطنين الفلسطينيين الذين وقع عليهم ظلم قرنين من الزمان!