عبدالله بن بجاد العتيبي
quot;يقتل القتيل ويمشي في جنازتهquot;، هذا مثلٌ دارجٌ يضرب لمن يرتكب جريمةً في حقٍ أحدٍ ما ثم يمشي في جنازته باكياً عليه، ولا أجد خيراً من هذا المثل لأستهلّ به هذه المقالة، ذلك أنّ الذبيحة أيّ ذبيحة فيها شركاء أهمهم الجزّار الذي قام بعملية الذبح وقبله من جلب الذبيحة وألقاها بين يدي الجزّار، وذبيحة غزّة التي لم ينِ الجزّار الفاتك الإسرائيلي يعيث فيها تقتيلاً وتجريحاً وتدميراً هي ذبيحة لها جلاّب أوصلها لحتفها، فالجزّار الإسرائيلي لم يستيقظ ذات صباحٍ ليقول سأهاجم غزّة هذا الصباح، ولكنّ المتحرّشين به بلا سببٍ هم الذين جلبوها له على طبقٍ من دمٍ وشعاراتٍ وغوغائيةٍ، وهم الذين قالوا له بلسان الحال اذبحها لنمشي في جنازتها، لا بل أضافوا في تحريضٍ غير مباشرٍ quot;إنك لو دمرتها كلّها فلن نتراجعquot;، كما جاء تصريحاً على لسان أكثر من قائدٍ من قادة حماس!
وبما أنّ العرب يريدون quot;جنازةً ليشبعوا فيها (لطم)quot;! كما هو المثل الدارج أيضاً، فإنّ قادة إيران وذيولهم من سوريا إلى حماس تبرّعوا بتقديم هذه الجنازة وسعوا لأن تكون هذه الجنازة موافقةً لأيام عاشوراء حتى لا يكون اللطم على التاريخ فقط، بل على التاريخ والحاضر معاً، يا أمةً ضحكت من quot;لطمهاquot; الأمم.
إنّ quot;التفرّسquot; في العربية مأخوذٌ من الفراسة، وهو لفظٌ يعني قراءة الأحداث قبل وقوعها، ومعرفتها قبل تجلّيها، ودرايتها من قبل أن يبدو لها خبرٌ ظاهرٌ وفعلٌ بيّن، وجاء في القاموس المحيط: quot;تَفَرَّسَrlm;:rlm; تَثَبَّتَ، ونَظَرَquot;، وجاء في لسان العرب لابن منظور قوله: quot;هو يَتَفَرَّس إذا كان يَتَثَبَّتُ وينظرُquot;، وهذا هو تحديداً معنى التفرّس الأول.
غير أنّ للتفرّس معنى آخر يختلف تماماً عن سابقه، فهو quot;تفرّسٌquot; بمعنى أن يصبح الشخص quot;فارسياًquot; وهو لم يكن، أي وهو ليس منهم، وهو مثل قولهم quot;تعرّبquot; أي أصبح أعرابياً بعد أن لم يكن، وتدخل في هذا المعنى للتفرس في وقتنا الراهن جماعاتٌ من العرب وآحادٌ، أحزابٌ وحركاتٌ، أفرادٌ ودولٌ، وليس بعيداً عنّا هنا ما يفعله quot;حزب اللهquot; أو quot;حماسquot;، أو عددٌ من أحزاب العراق، بل وصل الأمر إلى دولٍ كسوريا التي كانت دولةًً عربيةً كبرى فتحوّلت بقدرة قادرٍ إلى الضفة الفارسية بين عشيةٍ وضحاها.
هذان معنيان للتفرّس صحيحان لغوياً، ولكن لشتّان ما بين المتفرّسَيْن، متفرسٌ يرعى حقّ أمته وشعبه بالحفاظ على بيضتها والذود عنها والسعي بجده واجتهاده لرعايتها، وإبعادها عن الأخطار والمهالك، ومتفرّس يتحالف مع إيران على الحقّ والباطل، على ما ينفعه وعلى ما يضرّه دون تعقّلٍ وحكمةٍ، فقط ليحصل على ما يحسب أنّه مصلحته، ويزيد على هذا أنه يفعل ذلك باسم الله وباسم القضية، يوماً القضية الفلسطينية ويوماً غيرها، ولشتّان ما بين القائد الحقيقي، والقائد المزيّف التابع، القائد الذي ييسّر لشعبه ما استطاع ويفتح لهم من أبواب الراحة ما أطاق، والقائد الذي جلّ همّه خدمة الفارسيّ وراحته، وتقديم فروض الطاعة عند قبور قياداته، والرضوخ الكامل لأجندته وتوجّهاته، وصدق الأول إذا يقول: لشتّان ما بين اليزيدين في الندى/يزيد سليمٍ، والأغر بن حاتم!
إنّ التحركات الإيرانية في الآونة الأخيرة تثير القلق، وتدعو إلى التساؤل والتعجّب، فبالرغم من سعي دول الخليج ودول الاعتدال العربي للتواصل الحواري مع إيران، وحرصهم على حسن الجوار، إلا أن إيران لم تفتأ تسعى لمهاجمة هذه الدول العربية التي تختلف معها كالسّعودية ومصر والأردن والإمارات وغيرها، ترسل المتظاهرين أسراباً إلى سفاراتها ومكاتبها، وتهيّج الغوغاء على استهدافها وشتمها والتهجّم عليها، وبعيداً عن الداخل الإيراني، فإنّ إيران لا تنفك تسعى للإرجاف داخل هذه الدول العربية مرةً تحت ستار التشيّع والدفاع عن الأقلية الشيعية في هذا البلد أو ذاك، ومرةً أخرى تحت شعاراتٍ متفرّقةٍ مرةً شعار المقاومة وأخرى شعار فلسطين وغيرها من الشعارات التي تتخذها جسراً لطموحاتها وغاياتها، وكلما خبت الفتنة أوقدت لها ناراً لا لتتبتل حولها، بل لتنضج عليها مصالحها وتحرق مصالح العرب.
إن كانت إيران تريد إرسال رسائل لأوباما على أعتاب تتويجه بأنها قويةٌ ونافذةٌ في المنطقة، وأنها تستطيع أن تحرك الجماعات التابعة لها متى شاءت وأنّى أرادت، وأنّه لا سبيل له غير التفاوض معها والرضوخ لمطامحها فقد أخطأت السبيل وظلت الطريق، وإنْ كانت تريد أن تشتري عداوات دول المنطقة، التي لم تأل جهداً في إرسال رسائل الودّ لها فقد أعماها جنون العظمة وخيالات النفوذ عن رؤية الواقع وموازناته وشروطه، وسيأتيها بالأنباء من لم تزوّد. وقد أشار لهذا التوجه الإيراني صراحةً وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط في لقاء له مع فضائية quot;العربيةquot; جاء فيه: quot;هناك دوله مثل إيران خارج الإقليم العربي، تسعى للإمساك بأكبر قدر من الكروت العربية، ولكن تمسك بها لكي تقول للإدارة الأميركية القادمة: إذا رغبتم في البحث في أية أوضاع خاصة بأمن الخليج أو الملف النووي، فعليكم أن تتحدثوا معنا ولنا حيثياتناquot;.
العرب يسعون بقوةٍ لوقف العدوان الإسرائيلي الغاشم والدمويّ ويسعون بذات القدر لتوحيد الصفّ الفلسطيني تحت قيادةٍ واحدةٍ منتخبةٍ تمثّلها السلطة الفلسطينية، وquot;حماسquot; ترفض هذا لأنّها تريد مصلحتها هي لا مصلحة فلسطين، وإسرائيل تريد التخريب للتخريب، لا تريد للفلسطينيين أن يتّحدوا، ولا تريد للعرب أن ينجحوا في مساعيهم، وهو ذات موقف سوريا وإيران اللتين تريدان أن تبقى جنازة غزّة حارّةً، لأنهم يعتبرون الميّت حقيراً، وذلك حتى يتأكلوا بجنازته في مفاوضاتهم المقبلة، إيران مع أميركا وسوريا مع إسرائيل، أمّا فلسطين وقضيتها وشعبها فهم من اللامفكّر فيه لديهما.
لقد علّمنا التاريخ أنّ المتأكلين بالشعارات الغوغائية عند احتدام المحن ونزول الشدائد يجرّون أنفسهم ومن تبعهم للمهالك المحتّمة، لأنّهم يجعلون العاطفة قائداً والحماس مرشداً وينحّون العقل ويمنحون الحكمة إجازةً مفتوحةً، أين حديث خالد مشعل -الذي حاول تقليد نصر الله فخرج تقليداً باهتاً- من خطابات عبدالناصر، بل أين خطابات قيادات حماس التي لا تشعل الشعارات إلا بقدر ما تشعل غزة أينها من خطابات موسوليني وهتلر، بل وصدّام حسين وغيرهم، إنّها لا شيء بالنسبة لهؤلاء، ولكنّها للأسف تسير على الطريق، كل من فقد العقل والحكمة في الشدائد ولجأ للعاطفة والهتافات خسر قضيّته وحربه وهدفه ومني بالهزيمة والخسارة، والنماذج السابقة مع دولها خير مثال.
كلّ العالم يعلم أنّ شعبك أعزل، لا يجوز قتله إلا إسرائيل وquot;حماسquot;، فلك الله يا دماء غزّة المراقة على مذابح الأيديولوجيا العمياء من الطرفين إسرائيل وquot;حماسquot;، لك الله من عدوٌ يتجهّمك وقريب سلمته أمرك فما رعاك حق رعايتك، لك الله من آلة قتلٍ مجرمةٍ تحرق أبناءك جيلاً بعد جيلٍ، وتئد أحلامك عاماً بعد عامٍ، ومن دونها قومٌ آخرون يبيعونك في مزاد التوازنات والمصالح دون أن يرفّ لهم جفنٌ أو يؤنبهم ضمير، يتبسّمون على الشاشات وهم يزعمون الدفاع عنك ورعايتك في لحظةٍ نشاهدك فيها تنحرين من الوريد إلى الوريد ولا نملك شيئاً غير ثمن الأكفان!
التعليقات