عرفان نظام الدين
قد يتكرر المشهد عند وداع عام واستقبال عام جديد، وقد تعاد الكلمات والأوصاف في توقع أحداث وأوضاع من خلال التحليل الآني، لكن الأكيد أن العام 2009 سيكون مختلفاً من حيث التوقعات والمعطيات وأن أيامه ستكون حبلى بالأحداث الكبرى والمتغيرات والاستحقاقات المقررة سلفاً والمرسومة بمواعيد محددة بخاصة بعد أحداث غزة الدامية التي وضعت جميع الأطراف أمام واقع جديد وقلبت التوقعات ومهدت لزلازل ارتدادية لاحقة.
ومع الاعتراف مسبقاً بأن منطقتنا العربية والاقليمية الواسعة تتعامل مع الشواذ وكأنه قواعد وتتغير 180 درجة على وقع المفاجآت والأحداث غير المتوقعة و laquo;الزلازلraquo; التي لا تقاس في أي مرصد وتعصى على أي خبير أو محلل أو حتى مجرب، فإنه يمكن الجزم بأن العام الجديد سيكون عن جدارة عام التحولات الكبرى في مختلف المجالات والملفات والاستراتيجيات، وقبل كل شيء في تحديد مصير مسارات السلم والحرب داخل الدول المعنية وعلى صعيد المنطقة ككل والعالم بصورة عامة.
عام التحولات الكبرى مفهوم! ولكن الى أين؟ الى التهدئة أم الى الانفجار؟ الى العنف والإرهاب أم الى الاعتدال والحكمة والتروي؟ الى المواجهات أم الى المساكنة؟ الى الصراع أم الى الحوار؟ وهل ستحفل نتائج الأحداث المرتقبة بسجلات وحسابات توضع في رصيد المصلحة العربية أم في خانة تهديدها؟
من لبنان الى فلسطين، ومن العراق الى ايران أية تحولات سنشهد؟ سلبية أم ايجابية؟ حلول أم تعقيدات؟ حروب أم سلام؟ ثم كيف ستتحدد معالم النظام العالمي الجديد بعد تعثر ما سمي بالنظام الجديد في مطلع القرن الحالي وفشل نظريات الهيمنة والأحادية الأميركية وأوهام إقامة الامبراطورية العظمى المتحكمة بالعالم وثرواته ومصيره؟ وهل سنشهد هذا العام ولادة نظام مالي عالمي جديد يصحح عورات وأخطاء وجرائم النظام المالي المنهار بعد الأزمة الكبرى التي عصفت بالعالم ولم ينج منها كبير ولا صغير بسبب بنيانه على باطل، وما بني على باطل فهو باطل، بعد الكشف عن فضائح الاحتيال والنصب والمشاريع الوهمية والتعاملات الورقية القائمة على أوهام وأكاذيب وأبنية كرتونية سرعان ما تهاوت الواحدة تلو الأخرى عند أول هبّة ريح؟
انها اسئلة مشروعة وضرورية ونحن نقف على عتبة عام جديد ليس فيه يوم إلا وسيحمل روزنامة أحداث جسام على الصعيدين العربي والدولي. التحول الأكبر يتمثل في انتهاء عهد الرئيس جورج بوش المحمل بالتفجيرات والحروب والقتل والدمار والأزمات التي ولّت أزمات لا تنتهي الا بعمليات جراحية دقيقة. فبعد 8 سنوات من الآلام والزلازل يدخل البيت الأبيض رئيس جديد يحمل سمات التغيير الذي نادى به، فهل سينجح في مهمته الصعبة ويحدث نقلة كبرى وتحولات في السياسة الأميركية ودورها وأسلوبها في الداخل أولاً ثم على صعيد الأزمات التي تعصف بالعالم وأولها قضية فلسطين وأزمة الشرق الأوسط وأوضاع العراق ولبنان وإيران وأفغانستان؟
بعد 20 كانون الثاني (يناير) أي بعد أقل من اسبوعين يحبس العالم، والعرب معه، الأنفاس لمعرفة خط سير الرئيس باراك أوباما الأسود الأول الذي يتربع على عرش البيت الأبيض ويقود الولايات المتحدة لفترة رئاسية تمتد 4 أعوام أو ربما لولايتين إذا لم تصح تنبؤات العرّافين عن احتمال تعرضه لمكروه قبل انتهاء ولايته على خطى الرئيس الراحل laquo;المغتالraquo; جون كينيدي.
وجهات أوباما سترسم معالم صورة العالم هذا العام فإذا نجح بدأت مسيرة التحولات الكبرى وإذا فشل، أو لم laquo;يقلعraquo; كما يقول المثل الشعبي، فإن الأزمات ستزداد تعقيداً وتعم الفوضى. والأهم في البدايات أن نتعرف على سياسة أوباما تجاه أوروبا وروسيا والصين لإطفاء نيران حروب باردة نشبت في عهد بوش، بخاصة في قضايا الدرع الصاروخية والأزمة المهددة بالاشتعال مجدداً بين روسيا وجورجيا.
الانفراج الدولي سينعكس بلا شك على مختلف قضايا العالم الأخرى، ولا سيما قضايا المنطقة، أو على الأقل سيسهم في فتح النوافذ والأبواب ويمهد لحلول ويزيل العراقيل وينزع أسباب التوتير بين الدول الكبرى.
هذا المشهد العام يغري بولوج مسرح المنطقة لإلقاء نظرة على المشهد، أو المشاهد الخاصة بقضايا العرب والمسلمين والتي تشكل كل واحدة منها صاعق تفجير يشعل نيران الأزمات الأخرى ويوصل لهيبها الى دول المنطقة ومنها الى العالم بأسره، بخاصة وأن العدوان الاسرائيلي على غزة قد قلب سلم الأولويات ووضع أوباما أمام واقع جديد لن يتمكن من تجاهله.
فعلى صعيد القضية المركزية الأساس، أي قضية فلسطين، هناك أجندة متكاملة لأحداث ومواعيد حاسمة خلال الأشهر القليلة المقبلة لا بد أن يكون لها تأثير كامل على مجمل الوضع وعلى مسيرة السلام والحرب ومن ثم على التحولات الكبرى التي أشرت اليها في البداية. فإسرائيل ستشهد الشهر المقبل انتخابات عامة مهمة لا بد أن تترك انعكاسات وتأثيرات على المصير والقرار ومستقبل المواجهات وأوضاع المنطقة بأسرها من مصير غزة المهددة بحرب الإفناء الظالمة بعد التطورات الأخيرة، الى مستقبل الضفة الغربية وبالتالي مستقبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة والقدس وحق العودة وكل مفصل من مفاصل القضية.
فالفائز سيحدد معالم اللعبة وأدواتها عبر السياسة التي ينتهجها، مع أن كل التوقعات تتنبأ بفوز الليكود المتطرف برئاسة بنيامين نتانياهو ومعه عتاة المتطرفين الصهاينة الرافضين ليس لايجاد حل سلمي فقط بل المعادين لكل ما هو عربي والمناداة بالتمييز العنصري والذبح والطرد والتهجير وصولاً الى laquo;الترانسفيرraquo; المعد لعرب فلسطين المحتلة الصامدين ببسالة وحكمة وشرف منذ عام 1948، على رغم أن قادة laquo;كاديماraquo; والعمل يراهنون على أن حربهم على غزة ستصب لصالح مرشحيهم في الانتخابات.
والمفصل الثاني في نتائج هذه الانتخابات يتعلق بمصير السلام في الشرق الأوسط وبالتحديد المفاوضات بين سورية واسرائيل والتي قطعت أشواطاً مهمة خلال العام المنصرم بوساطة تركية وتنتظر الرد الاسرائيلي الحاسم والنهائي على الأسئلة السورية حول الانسحاب الكامل من مرتفعات الجولان المحتلة من دون قيد ولا شرط. فإذا واصلت الحكومة المنتخبة المسيرة وردّت بالايجاب فإن معظم الدلائل تشير الى احتمالات انتقال المفاوضات من غير مباشرة الى مباشرة وربما برعاية الولايات المتحدة هذه المرة في ظل رغبة أوباما في فتح صفحة جديدة مع سورية تنهي سياسة العزل والقطيعة.
وبالطبع فإن هذه التحولات الكبرى ستؤثر سلباً أو ايجاباً على ملفات وأزمات المنطقة من الملف النووي الإيراني وإلى أوضاع العراق ولبنان وفلسطين وإمكانات نجاح مؤتمر موسكو للسلام المقرر هذا العام لوضع أسس السلام الشامل في المنطقة.
وفي هذا الإطار ايضاً يمكن تصور آثار نتائج الاستحقاقات المرتقبة بالجملة والمفرق خلال الأشهر القليلة المقبلة إن على صعيد العلاقات السورية - اللبنانية وخطوة إقامة العلاقات الديبلوماسية وتبادل السفراء، أو بالنسبة إلى بدء أعمال المحكمة الدولية في مطلع آذار (مارس) المقبل ونتائج الحوار اللبناني حول الاستراتيجية الدفاعية ومصير سلاح laquo;حزب اللهraquo; في ضوء ما سيحدث من تحولات ينتظر أن تتوج في الانتخابات العامة المقررة في أواخر أيار (مايو) المقبل.
هذه الاستحقاقات ستحدد مصير لبنان بالذات، فالمناحي الايجابية ستنزع صواعق التفجير المتعددة، والنتائج السلبية ستؤدي حتماً إلى انفجار الأوضاع ودخول لبنان في متاهات حروب ودمار لا فكاك منها بعد مرحلة عنف واغتيالات ومواجهات دامية، لا قدر الله. إضافة إلى مخاوف امتداد حرب غزة إلى لبنان والمنطقة بأسرها.
في المقابل، ستشهد إيران استحقاقات أخرى على صعيد ملفها النووي، والعلاقات مع الولايات المتحدة في عهد أوباما وكيفية فك الحصار ومعالجة مشكلة تخصيب اليورانيوم ومعضلة كوابيس السلاح النووي والعلاقات مع دول المنطقة والدور المرتقب في العراق ولبنان وأفغانستان وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية المقررة في حزيران (يونيو) والتي إما أن تعيد محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية ومعه عوامل التفجير والمواجهة أو أن يحسم امر فوز رئيس اصلاحي معتدل يقود إيران الى شاطئ الأمان ويبعدها عن الحروب والأخطار، خصوصاً أن الأزمة المالية بعد تدهور اسعار النفط قد قلبت الموازين وكبدت البلاد خسائر فادحة.
وفي مجال الانتخابات أيضاً لا بد من العودة إلى فلسطين لرصد استحقاقاتها الدستورية والقانونية، ففي ظل زلزال غزة تنتهي بعد أيام ولاية الرئيس محمود عباس، مما سيخلق مأزقاً دستورياً تجزم السلطة الوطنية في رام الله بأنه محلول بعد انتخاب أبو مازن رئيساً لدولة فلسطين، وضرورات استمرارية السلطة لما فيه مصلحة الشعب، فيما ترفض حكومة laquo;حماسraquo; المقالة أي بحث في الاعتراف بهذه الشرعية بعد انقضاء المدة، ما يعني أن المواجهة ستزداد حدة نتيجة للمتغيرات التي أحدثها العدوان الأخير على رغم إعلان عباس عن مواعيد الانتخابات العامة والرئاسية في نيسان (ابريل) المقبل، فيما العدو يواصل حربه الظالمة على غزة المحاصرة وشعبها المناضل.
ويبقى العراق، جرح العرب النازف، وتبقى معه معالم الغموض والشكوك والتساؤلات عن الحاضر والمستقبل والمصير، وعن الوحدة والتقسيم والفيديرالية والفتن والعنف والإرهاب. الأكيد ان العام 2009 سيشهد تحولات كبرى بعد تسلم أوباما مقاليد الرئاسة الأميركية وانتهاج سياسة واقعية تتجه نحو جدولة سحب القوات تدريجاً. ولكن المستقبل غير مضمون للعراقيين والأميركيين خلال الفترة الانتقالية في ظل غموض بنود الاتفاقية الأمنية التي تنظم العلاقات المستقبلية وانسحاب معظم قوات التحالف ودور دول الجوار خلال هذه الفترة ومدى تجاوبها واستغلالها لمعالم الفراغ المرتقب أمنياً وسياسياً وعسكرياً.
وتحولات كبرى اخرى مرتقبة في أفغانستان والسودان لا بد أن تؤثر على كثير من الأوضاع الداخلية والخارجية، وأيضاً في مجال معالجة ارتدادات زلزال الأزمة المالية العالمية والتي لم تبرد جراحها بعد، بل ينتظر أن تستمر مفاعيلها إلى سنوات مقبلة وتنعكس آثارها على مجمل الأوضاع العربية على رغم كل ما قيل ويقال عن عدم تأثر الدول العربية والأفراد العرب بهذه الأزمة الخانقة.
يبقى سؤال اخير يضاف إلى الأسئلة الأخرى المطروحة في مطلع العام 2009 ويتعلق بمصير النظام العربي وإمكانات تصحيح الخلل وإعادة الدم إلى شرايينه لتدب فيه الحياة من جديد بعد عام من الضياع والفرقة والشلل الكامل على مختلف الأصعدة بسبب استمرار الخلافات من جهة وحالات اللامبالاة والتخاذل والسلبية من جهة أخرى. فهل سيشكل زلزال غزة وأداً نهائياً لهذا النظام أم مناسبة للمصارحة والمصالحة تمهيداً لإحيائه؟
هذا السؤال سنجد الرد الواضح عليه في اللقاءات العربية وصولاً إلى القمة العربية المقررة في أواخر آذار (مارس) المقبل، فإن انعقدت ونجحت في رأب الصدع وإعادة اللحمة إلى الصف العربي، فإن العقد ستحل الواحدة تلو الأخرى، وإن فشلت فعلى الأمة السلام وعلى النظام العربي الرحمة.
نعم انه عام التحولات الكبرى... ولكن إلى اين؟
التعليقات