علي الغفلي
لا يوجد حل عسكري في غزة. من الصعب تصور أن تنجح الدولة اليهودية في تحقيق أية أهداف سياسية، من قبيل كسر شوكة المقاومة الفلسطينية أو القضاء على استحقاقات الفلسطينيين الوطنية، من خلال حربها على هذا القطاع المنكوب.
ويصعب أيضاً أن نتصور أن الإمكانات العسكرية المتوفرة لدى حركة ldquo;حماسrdquo;، وبعد شهور طويلة من الحصار الذي أنهك مجتمع غزة بأسره، ستتمكن من الصمود طويلاً أمام جبروت وقسوة الآلة الحربية ldquo;الاسرائيليةrdquo;. إذا كانت الحكومة الصهيونية راغبة في طي صفحة إخفاق جيشها المحرج في صيف العام ،2006 فإنها تعيش تحت ضغط الحاجة إلى إنجاز نصر عسكري وفوز سياسي سريعين في غزة. وإذا كانت حركة ldquo;حماسrdquo; راغبة في تحقيق قفزة نوعية في قواعد اشتباكها مع العدو الصهيوني، فإنه يتعين عليها أن تبدي مقاومة شرسة وندية حقيقية تجاه الجيش ldquo;الاسرائيليrdquo;، شبيهتين بتلكما اللتين أبدتهما المقاومة اللبنانية قبل عامين في جنوب لبنان.
بيد أن امتداد الحرب الحالية على غزة إلى أكثر من عشرة أيام إلى الآن من ناحية، وبدء الهجوم ldquo;الإسرائيليrdquo; البري على القطاع في مطلع الأسبوع الثاني بعد أسبوع كامل من القصف الجوي من ناحية أخرى، يقودان إلى تصور أن الحرب ستكون طويلة نسبياً أولاً، ومكلفة بشرياً بشكل يحرج حماس وتل أبيب ثانياً، ومن دون عوائد سياسية مبررة بالنسبة لأيهما، الأمر الذي ينذر بأن الفشل صار يلوح بالفعل في أفق الطرفين.
وإن كانت الشبهة التي ارتقت إلى مرتبة القناعة في مخيلة الشعوب العربية، والتي تقول إن العدوان ldquo;الاسرائيليrdquo; الحالي على قطاع غزة لم يكن ليبدأ ويستمر لولا تفهم مباشر أو ضمني من قبل بعض القوى الإقليمية، نقول إن كانت هذه الشبهة صحيحة، فإنه يجدر بهذا العدوان أن يتمخض في نهاية المطاف عن بعض من النتائج المحمودة التي يمكن أن تبرر المواقف العربية المشوبة بالارتياب في نظر شعوبها. على أقل تقدير، حري بالحكومات العربية أن تجتهد في العمل على فك الحصار الجائر من أجل تفريج الكربة الإنسانية المركبة التي يعاني تحت وطأتها أهل غزة مختلف أصناف الحرمان الإنساني، أو التمهيد لإنجاز تقارب طال انتظاره في العلاقات بين حركتي فتح وحماس من أجل إصلاح الصدع الوطني الفلسطيني، أو إرغام الكيان الصهيوني على الرضوخ للتعامل بشكل موضوعي مع الفلسطينيين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل التوصل إلى تسوية سلمية.
قد يكون التصور القائم على احتمال أن ثمة أهدافاً حميدة من وراء المواقف السلبية للحكومات العربية ستتحقق في الأمد القصير لا يستند إلى أي أساس، ولا يعدو كونه مجرد ضرب من ضروب حديث النفس بالأمنيات.
إذا ثبتت خيبة الأمل في هذا الخصوص، واتضح أن مواقف النظام العربي لم تكن سوى مقدمة لحصاد الخزي في ما ستؤول إليه الأحوال الإنسانية والسياسية والاستراتيجية بالنسبة للفلسطينيين، فإن على مؤسسات هذا النظام الاستعداد للإقرار بالفشل الذريع في غزة.
وليس الشعب العربي بمجموعه بمنأى عن الإسهام في صناعة كؤوس الفشل في غزة، ولذلك لن يكون في مأمن من أخذ نصيبه في التجرع من مراراتها. أين كانت مواقف الاحتجاج والرفض لدى هذا الشعب عندما كان يعلم أن أهل غزة الصامدين كانوا يرزحون خلال شهور الحصار المفروض عليهم تحت جريمة أرادتها الحكومة الصهيونية، وأقرها عليها المجتمع الدولي، وتجاهلها النظام الإقليمي العربي، حرموا من خلالها من بديهيات الحياة البشرية، من الغذاء والدواء والوقود؟ لماذا لم يستوعب الشعب العربي فداحة الحرمان الذي طال سكان غزة، ويرفع صوته برفض مثل هذه المعاملة الوحشية ويطالب بإزالتها من خلال توفير كافة أسباب الحياة الإنسانية للشعب الفلسطيني المحروم أصلاً من حقوقه السياسية؟ على أي أساس يبني الشعب العربي اعتقاده أن أحوال الجوع والمرض والجهل والعزل وتعطل إمدادات الكهرباء بالنسبة لمليون ونصف المليون فلسطيني في غزة، هي مسألة أقل إشكالية من مقتل نحو خمسمائة شخص وجرح نحو ثلاثة آلاف من الفلسطينيين في العدوان حتى اليوم؟ هل يتعين على الفلسطينيين المرور بترويع المجازر والمحارق المتوحشة التي ينفذها الجيش ldquo;الاسرائيليrdquo; ضدهم كي يسترعوا انتباه وتعاطف الشعوب العربية، ومن ثم إثارة روح الرفض التي يتم التعبير عنها في شوارع المدن العربية لكل ما يكابده الفلسطينيون؟
لقد فشل الشعب العربي إزاء غزة، ولم يفلح في درء المعاناة الإنسانية عن أهلها أو رفعها بعد أن وقعوا فيها، ولم يفلح في تصحيح مسارات حكوماته في كيفية التعالم مع القضية الفلسطينية برمتها، أو في جزئية غزة على أقل تقدير. وإذا كانت التجارب السابقة تعتبر مؤشراً جيداً لما يمكن أن يحدث في المستقبل، فإنه يؤسفنا القول إن موجات التحرك الشعبي المتكررة في العالم العربي ليست إلا فورة من الغضب ندرك أنها في طريقها إلى الهدوء بعد أن تضع الحرب أوزارها، وأغلب الظن أن الشعب العربي لن يستطيع فرض أي جزء يذكر من إرادته على الحكومات العربية بخصوص تخفيف جانب معاناة الفلسطينيين الإنسانية الفرعية، ناهيك بالطبع عن معالجة معاناتهم السياسية المتأصلة.
وللمجتمع الدولي نصيبه من الفشل في غزة كذلك. يواجه بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة من خلال الحرب ldquo;الاسرائيليةrdquo; الحالية على قطاع غزة أول اختبار حقيقي في المسألة الفلسطينية منذ توليه هذا المنصب، وقد اتضح جلياً أن المنظمة العالمية عاجزة عن التعامل في عهده مع هذه المسألة بشكل يختلف عن إخفاقها في عهد سابقه كوفي أنان. ويتوج مجلس الأمن أزمته المؤسسية برفض مشروع قرار يطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وكأنه يقول إن تحقيق الأمن، وهذه مسؤوليته الأساسية، لا يتم إلا من خلال استمرار إطلاق النار.
وأخفق الرئيس المُدبر جورج بوش هو الآخر في اتخاذ موقف مشرف تجاه المسألة الفلسطينية في الأسابيع الثلاثة الأخيرة من عهده الرئاسي، ويصر على الوقوف إلى جانب الطرف المعتدي، الذي يستخدم القوة العسكرية المفرطة ضد الشعب الفلسطيني المستضعف والمحاصر، في موقف يؤكد من خلاله أن عهده الذي بدأ بجريمة مساندة آرييل شارون، ومر بجرائم الحروب الإقليمية التي شنها، جدير بأن ينتهي بتأييد شنيع وأخير للعدوان على قطاع غزة.
كما يخفق الرئيس الأمريكي المقبل باراك أوباما في اختبار غزة، ويقرر أن يلتزم الصمت تجاه العدوان ldquo;الاسرائيليrdquo; الآثم، وكأنه يريد أن يحمي شعار التغيير الذي جاء به إلى سدة الرئاسة من الفشل الذي يمكن أن يلحق به في غزة. ربما نجح في ذلك، ولكن إلى حين بالطبع.
التعليقات