عبدالله العوضي
وقعت غزة quot;الحزينةquot; ضحية سهلة بين حصارين كلاهما مرّ، فالحصار الأول معروف منذ عقود مضت، وهو الذي صنع بيد إسرائيل المخضبة منذ إعلان دولتها بدماء الشهداء من أهل فلسطين. وزادت تل أبيب اليوم الكيل إلى ذلك الحصار الخانق، ثقلاً آخر من وزن النار التي تحرق المحاصرين الذين يبلغ عددهم قرابة المليون ونصف المليون، هم عدد السجناء في أكبر سجن شيد في التاريخ على الأرض.
والمشكلة الأكبر في هذه الحالة أن هؤلاء المحشورين في ضيق هذا السجن الأضخم، يعانون كذلك من حصار فكري أشد خنقاً من الدخان المتصاعد من ألسنة اللهب الحربية، لذا نجد أن هذا الشعب الغزاوي الذي فصلته الأيديولوجيا عن الشريان الفلسطيني في الضفة الغربية بسبب من هذا الفكر المتحمس لكل ما هو غير رشيد.
فالحصار المادي من قبل العنت الإسرائيلي يمكن أن يزول إذا ما تم اتفاق من أي نوع، ولكن كيف يمكن إنقاذ شعب بأكمله من حصار فكر متشدد لا يقبل الجلوس مع سلطته الشرعية والمعترف بها من قبل العالم بكل أطيافه حتى في الوضع الكارثي الذي يعاني منه الأشقاء ببراءتهم، تضع quot;حماسquot; شروطاً مضحكة أمام طاولة المفاوضات مع السلطة عندما يطالب أحد قياديي quot;حماسquot; قبل الجلوس مع قيادة حركة quot;فتحquot; منها quot;الإفراج عن المعتقلينquot; فتحقيق هذا الشرط لدى quot;حماسquot; أولى حالياً من وقف العدوان الإسرائيلي على غزة!
ترى، أي الحصارين أشد وأنكى في مثل هذا الظرف العصيب على الشعب الفلسطيني بكل فصائله، الحصار الإسرائيلي الأول والقديم أم الحصار quot;الحمساويquot; الفكري-الأيديولوجي لفئة ركبت رأسها في الوقت الذي ينادي العقلاء في جميع أنحاء العالم بالعودة إلى الهدوء السابق وإن كان معلقاً بإرادة الأطراف التي سعت للوئام بدل الصدام الذي أوصل الوضع على الأرض إلى حالة حرب غير متكافئة بكل المقاييس المعروفة لدى الخبراء والمعنيين بالاستراتيجيات الخاصة بمثل هذه الحالات الاستثنائية.
فلا يمكن لأحد أن يتصور بأن quot;حماسquot; التي قلبت الطاولة الفلسطينية وتعالت على السلطة الشرعية بغزوها لـquot;غزةquot; قبل أكثر من عام، قادرة على الحسم في معركة كهذه التي يقتل فيها إسرائيلي مقابل المئات من الفلسطينيين الذين يحاولون الهروب من سجن الحصارين بأي وسيلة، ولكن في ظل هذه الظروف أنى لهم ذلك؟
بالمقابل فإن لإسرائيل هدفها المعلن والمباشر وهو التخلص من حركة quot;حماسquot; وقياداتها بأي ثمن، وquot;حماسquot; هدفها المعلن كذلك على لسان رئيس الحكومة الفلسطينية المقال، التضحية بغزة ومن فيها ثمناً للبقاء في الحكم، والمقاربة هنا أن إسرائيل وquot;حماسquot; متفقتان وفق هذا المنظور على ذات الثمن، فكم تخدم quot;حماسquot; إسرائيل وفق هذه السياسة الخالية من كل عناصرها.
إننا أمام حالة نادرة في تاريخ السياسة المعاصرة، فالمنطق السياسي غائب تماماً والمصلحة البراجماتية بين العدو الإسرائيلي وحكام غزة غير مدرجة على جدول إعمال العقل والحكمة في مثل هذه الأوضاع المزرية.
والأكثر غرائبية أن quot;حماسquot; في هذا الظرف تتنكر لكل من قدم لها نصيحة أو مشروعاً للتهدئة الداخلية وتصم هؤلاء اليوم بأنهم وراء محرقة غزة، ذلك اعتماداً على خطاب محروق من الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان صيف 2006 لقائد quot;حزب اللهquot; الذي يقوم في هذه الساعات الضائعة من حياة الأمة بشقيها، بإلهاب الشارع العام من أجل إعادة سيناريو تدمير لبنان في صورة غزة.
فإذا كان هدف إسرائيل هو التخلص من quot;حماسquot; إلى الأبد، لإعادة quot;غزةquot; إلى سلطة الأم الشرعية لفلسطين كاملة غير مجهوضة، فإن سلوك quot;حماسquot; عامل مساعد قوي في الدفع بذلك.
فحري بالمتمسكين بالسلطة في quot;غزةquot; أن يرتفعوا قليلاً بأنفسهم درجة -ليس من أجل أحد وإنما من أجل quot;القدسquot; على أقل تقدير التي توحد الأديان السماوية وتجمعها في بقعة مباركة. وإذا كانت quot;حماسquot; لا تراعي مثل هذا الجانب من القضية الفلسطينية، فإن ذلك يعني أن الفكر الذي يحاصر صاحبه والآخرين معه يجب أن يحارب حتى يمكن إنقاذ غزة ومن فيها من الحصار الأكبر.
التعليقات