صبحي غندور
هل كان العالم عموماً، والعرب خصوصاً، بحاجة إلى مزيد من المشاهد المروعّة عن جرائم إسرائيل في غزّة لكي يدرك الجميع أنّ العدوان الإسرائيلي ليس بـ laquo;ردّة فعلraquo; على قذائف محدودة التأثير أطلقتها المقاومة الفلسطينية ولا على انتهاء laquo;حال التهدئةraquo; التي امتزجت باستمرار حصار وتجويع الفلسطينيين في غزّة؟
وهل أنّ إسرائيل بحاجة إلى أعذار حقيقية كي تنفّذ سياسات واستراتيجيات تعدّها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً قبل فترة زمنية طويلة تسبق بدء التنفيذ العملي لها؟ أوَلم يكن الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 واحتلال أول عاصمة عربية (بيروت) بحجّة محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن؟!
بل هل كان هناك أيّ عذر أصلاً لما قامت إسرائيل به، منذ أربعين عاماً تماماً، حينما احتلّت قوات الكوماندوس الإسرائيلية في نهاية العام 1968 مطار بيروت ودمّرت كل طائراته المدنية دون أي مبرّر معلن لذلك سوى محاولة إقحام لبنان في نتائج حرب العام 1967 بعد أن كان الموقف اللبناني في تلك الحرب محايداً؟
أليس عيباً على البعض اعتبار أو رؤية ما تفعله إسرائيل وكأنّه laquo;ردّة فعلraquo;؟! أو التعامل مع العدوان على غزّة (كما كان العدوان على لبنان صيف العام 2006) وكأنّه صراع إسرائيل مع فصيل فلسطيني (أو لبناني)؟!
وهل أصبح الصراع العربي/الصهيوني مختزلاً إلى هذا المستوى الرديء من التوصيف بعدما جرى اختزاله أولاً بالقول إنّه الآن laquo;صراع فلسطيني/إسرائيليraquo;، ممّا يبرّر نفض أيدي بعض العرب من مسؤولياتهم الوطنية والقومية والدينية؟
وقد انتقل laquo;هؤلاءraquo; من مقولات تبرير العجز والتقصير الذاتي إلى تبرير العدوان نفسه، على لبنان أولاً في العام 2006، ثمّ الآن على غزّة.
هي حرب متصلة في أهدافها وأطرافها وذرائعها تلك التي بدأت في لبنان بالعام 2006 وتستمرّ الآن في الحرب على غزّة. حربٌ أرادتها إدارة بوش وإسرائيل أن تكون آخر حروب المنطقة قبل فرض التطبيع الكامل مع إسرائيل وبناء laquo;الشرق الأوسط الجديدraquo;. وقد ظنّ حكّام إسرائيل وإدارة بوش أنّ ما تعثّر وتعذّر تحقيقه في لبنان يمكن أن يتحقّق في غزّة، فالمقاومة فيها أضعف بالإمكانات العسكرية والقدرات التنظيمية، وهي محاصرة كلّياً في بقعة جغرافية صغيرة.
لكن الغباء (أو جنون العظمة العسكرية) حال دون رؤية الجانب الآخر من الصورة حيث أنّ هذا الضعف بالإمكانات العسكرية وبواقع الحصار هو الذي ولّد تضامنا عربياً وإسلامياً ودولياً مع شعب غزّة، الذي هو جزء من شعب فلسطيني واحد يعاني لأكثر من 60 عاماً جرائم القتل والتشريد واغتصاب الحقوق. فغزّة جزء من قضية فلسطينية لها أبعادها القومية والدينية والإنسانية، والحرب عليها الآن أحيت من جديد حيوية هذه الأبعاد رغم كل محاولات الاختزال والتقزيم لها منذ اتفاقية أوسلو في العام 1993.
وستكون من محصّلة هذه الحرب على غزّة، رغم حجم المأساة الإنسانية، إيجابيات كثيرة فلسطينياً وعربياً. وربّما تكون هذه الوحشية في العدوان الإسرائيلي تعبيراً عن حال الإفلاس الذي يصيب أي محتل أو مستعمر حينما يقترب من موعد اندحاره. هكذا حصل بربيع العام 2000 في لبنان قبل اضطرار إسرائيل للانسحاب منه في مطلع صيف العام نفسه. وهكذا كانت سيرة الاحتلال والاستعمار في كلّ مكان بالعالم: تشتدّ قساوته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
تماماً كما هي أيضاً سيرة الشعوب التي تقاوم الاحتلال، فهي تقدّم التضحيات الكبيرة وتضطرّ للسكون أحياناً، لكن قانون الشعوب الخاضعة للاحتلال يقضي بأن كلّما جرى إخماد المقاومة هبّت واشتعلت من جديد.
وقد اختلفت الأسماء التي حملت منذ مطلع القرن العشرين مشعل المقاومة الفلسطينية، بل واختلفت الدوافع الأيديولوجية والشعارات، لكن مشعل المقاومة بقي ينتقل من يد إلى يد، بالخيار أو بالاضطرار، وفي كلّ مرّة يُدخِل المقاومون عليه زيتاً جديداً يقوّي ويزيد من وهج شعلته.
المشكلة الآن أن ليست غزّة وحدها هي المحاصرة، بل القضية الفلسطينية برمّتها. فقد عاشت هذه القضية سنواتها الذهبية في حقبة ما بعد حرب العام 1967 حينما توفّرت لها مرجعية عربية داعمة تجسّدت آنذاك في مصر/عبد الناصر وفي تواصل عربي جماهيري معها بالمال والبشر ومختلف أنواع الدعم والمساندة.
لذلك، هو مؤشّر خير ما يحدث الآن في الشارع العربي من تحرّك شعبي كبير تضامناً مع غزّة. غياب الموقف العربي الواحد، وانعكاس ذلك على الجسم الفلسطيني، كلّها عوامل سلبية استند عليها ولا يزال العدوان الإسرائيلي والسياسة الأميركية الداعمة له.
لقد كان أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة صادقاً ومحقّاً في دعوته للتجاوب أولاً مع ما يريده laquo;المجتمع العربيraquo; قبل الحديث عن laquo;المجتمع الدوليraquo;.
إنّ الغضب الشديد يعتمر الآن في صدر كلِّ إنسانٍ عربيّ أينما كان. أمرٌ جيّدٌ ومطلوب. غضب من العجز أمام عدوٍّ إسرائيلي يمارس القهر والعدوان على الفلسطينيين غضب عربيّ عارم هو أيضاً على الدول الكبرى ومهزلة مجلس الأمن والأمم المتحدة وlaquo;غابة المجتمع الدوليraquo;.
لكنْ ماذا بعد هذا الغضب؟ هل سيبقى الإنسان العربيّ محلّقاً في فضاء الأخبار على laquo;الفضائيات التلفزيونيةraquo; أم أنَّه سيحاول تغيير الواقع ليكون له، ولمن بعده، مستقبل عربيّ أفضل؟
التعليقات