حسن عزالدين

أثبتت تطورات الأسابيع القليلة الماضية، وتحديداً مشهد الدم المتجلي في غزة، بأنه قد بات من الضروري إيجاد صيغة جديدة وواضحة لآفاق التضامن العربي، تختلف بشكل جذري عمّا كانت تعرضه ولا تزال جامعة الدول العربية.

هذه الفكرة لا تحمل في طيّاتها تشاؤما أو نقداً من أي نوع، بل هي محاولة للوقوف على التجارب المأساوية التي عاصرناها أو تلك التي عانى منها أجدادنا في السابق، وأخذ العبر منها بشكل جدي وموضوعي بعيدا عن المناكفات والحزازيات التي تحفل بها ساحتنا العربية.

مشهد الدم في غزة أثبت للمرة الألف إن لم يكن أكثر، بأن التناغم القائم بين أداء الجامعة العربية من جهة والدبلوماسية العربية الفرعية من جهة أخرى ليس فعالا بالشكل المطلوب، ولم يتمكن من محاكاة لغة العصر.

هذا التناغم مصر على المضي قدما في تراتبيته ونبرته المملة التي لم تتمكن في السابق من تحقيق أية أهداف ملموسة، في حين نرى أن الجهد المخلص الذي يحاول بذله كثيرون لا يلقى الصدى المطلوب، لأن اللغة العصرية التي يتحدثون من خلالها لا تلقى بكل بساطة أي قبول لدى أصحاب القرار، لا لشيء إلا لأنها غريبة كليا عن إطار تفكيرهم.

للأسف، لم تتمكن الجامعة العربية حتى اليوم من تحقيق التضامن بين أقطابها، وفشلت في إيجاد الصيغ السليمة التي قد ترتقي بنا إلى عالم الانسجام في حده الأدنى، وهو ما يجعل الأمل بتحقيق التكامل على غرار ما هو قائم بين بعض دول أوروبا مجرد أضغاث أحلام، لأن ما يفرق أصحاب الشأن أكثر بكثير ممّا يجمعهم.

قد يقول قائل بأن الجامعة حققت الكثير من الطموحات والأهداف منذ تأسيسها وحتى اليوم، باعتبار أنها شكّلت إطارا دبلوماسيا كان يتحدث باسم الجماعة أثناء الأزمات المختلفة التي عصفت بالمنطقة وأهلها، ناهيك عن المساعدات التي تقدمها بين وقت وآخر لهذا البلد أو ذاك.

إضافة لذلك، فهي اعتبرت دائما المظلة الأكبر التي بها تتظلل الدول الفقيرة والنامية، وإن كان هذا الظلّ قد حجب نور الشمس الوهاج لفترة طويلة من الزمن.

والآن، بعد كل هذه التجارب القاسية والأعوام الطويلة والفشل الذريع الذي غطّت رائحته كل ما يمكن أن يحسب كانتصارات محققة، جاءت ملحمة غزة لتؤكد مرة أخرى ضرورة البحث عن إطار جديد للتعاون يسمح على الأقل بتجنيب المدنيين العزّل مآسي أي نزاع دموي، بغض النظر عن التفسيرات التي قد يكون بعضنا مقتنع بها حول الأسباب التي أدّت لما نشهده يوميا من مآس.

تصوروا كم من الوقت احتاج العرب لكي يجتمعوا لإيجاد آلية تحكم أداءهم الدبلوماسي في منظمة الأمم المتحدة، وكم كلّف ذلك من شهداء وجرحى. راقبوا بدقة حركة الخلافات القائمة والتباين في الآراء، وكم كلّف ذلك من دماء بريئة لا علاقة لها بما يجري. أمعنوا النظر جيدا في التبريرات والتفسيرات والمؤتمرات الصحافية التي لم تقنع أحدا، والتي لم تعكس سوى مزيد من التشتت والانقسام والتفرقة.

مقابل ذلك، راقبوا بموضوعية أداء الدبلوماسية العربية في دول الشتات المختلفة، ستكتشفون بأن هذا الأداء، باستثناء بعض الجهود الفردية لبعض الدول طبعا، لم يخرج عن إطاره الروتيني الممل والسخيف جدا، باعتبار أن بعض الموظفين الذين laquo;شاءت ظروفهمraquo; أن يتمثلوا بالسلك الدبلوماسي، لا يفقهون من العمل الدبلوماسي سوى المشاركة بحفلات الاستقبال، وكتابة المذكرات الروتينية أو متابعة الأخبار عبر وسائل الإعلام العادية لإعداد التقارير السياسية منها.

أعتقد بأن الوقت قد حان لإيجاد صيغة ثورية لتحقيق الانسجام والتعاون بين الدول العربية، هذا إذا كانت تلك الدول راغبة فعلا بالحفاظ على ذلك التعاون. ما أقصده بالثورية هو القفز فوق إطار التقليد والبحث عن آليات جديدة تضمن تطوير ذلك الانسجام على كافة الأصعدة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، على أن يتم في سياق ذلك كلّه التوافق على آلية أخرى لتحقيق الانسجام السياسي المرجو.

وقد يكون هذا الأمر صعبا جدا انطلاقا من الحسابات والاعتبارات السياسية والإيديولوجية المختلفة التي تحكم كل بلد عربي، لكن لا يمكن أن تكون مستحيلة في ظل ما نشهده من قواسم مشتركة كثيرة تجمع عليها الأكثرية.

في أوروبا، تمكنت الدول من الاتفاق على مشروع للتكامل في ما بينها برغم ما عانت منه من مآسي ومجازر مشتركة. ولا ننسى في هذا السياق مجازر ألمانيا النازية بحق جيرانها ومن هم أبعد من ذلك، وكيف تمكن قادة تلك الدول من نسيان الماضي وإطلاق المشروع الثوري الواعد الذي سيرتقى بهذه القارة إلى مستويات عالية جدا.

ما يثير الاستغراب والأسى في نفس الوقت هو أن العرب، والحمد لله، لم يتباعدوا عن بعضهم البعض بسبب المجازر أو المآسي الدموية كتلك التي شاهدتها أوروبا، ولا يجب بالتالي السماح للفوارق الإيديولوجية القائمة أن تكون حجر عثرة في طريق تعزيز اللحمة بين أبناء الأمة.

يكفي الاتفاق على القواسم المشتركة التي تحكم أداء الجماعة في المواضيع الحساسة مثلما هو قائم في الاتحاد الأوروبي، والحفاظ حتما على خصوصية كل بلد.

هذا الكلام ليس إنشائيا حتما، بل يرمي لوضع اليد على الجرح النازف منذ زمن بعيد. لقد أثبتت المآسي الدموية الكثيرة في أكثر من بلد عربي ضرورة بناء آلية جديدة تبعد الجميع عن سياسة التهوّر والمغامرة وتقربهم من بعضهم البعض قبل فوات الأوان. وأعتقد بأن أنهر الدماء الغزيرة التي سالت حتى يومنا هي كفيلة لإقناعنا بحتمية تحقيق تلك الانتفاضة السياسية الحقيقية.

شخصيا أعتقد بأن تلك الانتفاضة لن تحصل إلا عند انضمام إسرائيل إلى الإطار الشرق أوسطي الشامل. فهل نحن بانتظار تلك الحقبة فعلا؟