سليمان العطار

أشعل نيرون العام 64م سيرك روما الخشبي، ومنه امتدت النيران إلى عشرة أحياء (طبعا أحياء الفقراء)، فأحرقتها تاركة أربعة أحياء (طبعا أحياء النبلاء والقواد والأغنياء)، هي آخر ماتبقى من روما، لأنها كانت بعيدة عن النيران.. داخل هذه الأحياء الناجية، جلس نيرون فوق برج عال يتفرج في سعادة بالغة. اتجهت أصابع الاتهام إلى الامبراطور الروماني المجنون بالقتل والنيران: نيرون ذاك، فقدم المسيحيون ضحية لمن يتهمه، باتهامهم بإشعال الحريق، وبدأ اضطهاد المسيحيين بإحراق كل من تقع عليه أيدي ولاة الامبراطورية منهم (واستمر اضطهادهم بعد موته طويلا).

الخلاصة، أن نيرون هذا لم يكن بدعا بين مجانين الحكام عبر التاريخ، مع تنوع أساليبهم في إشعال الحرائق.

وآخر نسخة من نيرون كان الرئيس جور ج.دبليو بوش.. الذي ركب طيارة تقله إلى مكان مجهول لحمايته خلال احتراق نيويورك وواشنطن، يشاهد من علٍ الدمار والحريق في واقعة 11سبتمبر، تلك البداية المنحوسة لفترتي حكم laquo;الرئيساطورraquo; الأميركي. ومن يومها أعلن الحرب ضد الإرهاب، متهما المسلمين -كل المسلمين- بالهجوم المشهور. وكانت تلك الحرب إرهابا يفوق كل تصور للإرهاب المزعوم. فقد شن الحروب التي طالت العالم الإسلامي بأشكال متعددة، وبدأت بالحرب ضد أفغانستان التي توشك لتصير حربا تغرق كل شبه القارة الهندية من ناحية، وتدمر حاليا البشر والبيوت في باكستان والهند، وتكاد تصل الآن إلى بنغلادش. ثم كانت الحرب ضد العراق التي لايعرف أحد متى وكيف ستنتهي، ولاسيما أن العراق المفتوح فتح الباب لنقل المشكلة الكردية التركية والايرانية إلى قلب الإقليم الكردي في العراق.

كما فتح الباب واسعا لايران لممارسة انتقامها من العراقيين على يد العراقيين.. وهكذا صارت طائفية العراق تتجاوز أحلام طائفية لبنان (فلم يفكر اللبنانيون في تقسيم لبنان إلى دول متعددة بتعدد الطوائف والأعراق)،فضلا عن حرائق وتدمير وقتل ونزوح ولجوء فاق الخيال، حيث ينافس عدد اللاجئين العراقيين أعداد اللاجئين الفلسطينيين، والقتلى فاق أعداد ضحايا حرب فيتنام.

ثم كانت الحروب الإسرائيلية بتحريض أميركي ضد الفلسطينيين، وحرب تموز ضد لبنان بما سادها من مذابح. ومن يقرأ تصريحات الأميركيين خلال تلك الحرب يدرك أنها حربهم، وما دور إسرائيل إلا دور القاتل المحترف لمعسكر من المرتزقة الذي يحمل اسم الدولة اليهودية.

والحقيقة الدامغة، في الصومال الجائع المشرد المنكوب، أنه ملعب أميركي، أنهك إثيوبيا وأريتريا معا، حيث نقلا حربهما إلى الصومال، تماما مثلما نقلت تركيا وإيران حربهما إلى العراق، الذي ينافس الصومال في الفوضى والجريمة المنظمة.

دأبت السياسة الأميركية في عهد بوش والمحافظين الجدد على إشعال الحرائق، ثم الاتجاه لإطفائها بصب الزيت عليها في أماكن عديدة من العالم، وربما آخرها جورجيا، التي تكاد تلحق بها أوكرانيا في صراع الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا. وقد تشتعل قبل رحيل بوش، أو تنتظر لتنفجر في وجه الرئيس القادم أوباما.. لكن ذلك كله لايعنينا الآن، إنما الذي يعنينا هو الحرائق التي يشعلها laquo;الرئيساطورraquo; بوش في العالم العربي، وآخرها حرب غزة الوحشية الحريق.

ومن الطريف أن مجلس الشيوخ الروماني أعلن الامبراطور نيرون عدوا للشعب العام 68م. وكان ردّ نيرون أن طعن نفسه بخنجر، وفارق -منتحرا- الحياة التي أحرق من فيها.. والسؤال الآن، بعدما أعلن الأميركان بوش عدوا للشعب الأميركي (من يتابع تعليقات الأميركيين على الانترنت. كما من يراجع أسباب انصراف الأميركيين عن المرشح الطيب ماكين، يدرك دقة عداء الشعب الأميركي لبوش): هل نسمع خبر انتحار بوش بعد خروجه من البيت الأبيض، عندما تزوره صفوف جثث أطفال غزة الملفوفة بالأبيض في يقظته ومنامه؟!

لو لم يفعل، فقد فعل بتكرار مذابح تموز اللبنانية في غزة، وتكررت صيغ التصريحات نفسها التي تقول ما خلاصته: إن عدد القتلى والمؤسسات المدمرة مازال لم يصل إلى السقف الذي يرضي laquo;الرئيساطورraquo; نيرون الجديد، أو بوش الصغير.

لايهمني انتحار بوش من عدمه، فقد أسقطه التاريخ في خانة المنتحرين، لكن الذي يهمني أن يلتفت العرب إلى تصريح بالغ الأهمية، لكنه بالغ الإيجاز لجلالة الملك عبد الله الثاني، ملك الأردن، عندما قال: laquo;إن ما يقلقني هو ما بعد غزة، وأخشى أن هناك مؤامرة ضد مستقبل الشعب الفلسطينيraquo;.

لم يذكر الملك تفصيلات، لكنه تركها لبولتون -مندوب أميركا السابق في الأمم المتحدة- في مقال قال فيه،

لا للدولتين (فلسطين وإسرائيل)، ونعم لثلاث دول هي الأردن ومصر وبينهما إسرائيل. لكن ما لم يقله بولتون عما بعد الدول الثلاث، إنها بشائر خطة لنقل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى كل من مصر والأردن لخلق ذريعة لإسرائيل في المستقبل، لمزيد من التوسع في أراضي الدولتين، وإنهاء السلام الهش الحالي معهما.

تلكم هي آثار بوش التي سوف تبقى في حقيبة الاستراتيجية الأميركية مع كثير من الشرور تنتظر العرب والمسلمين، الذين يكادون -في براءة- لايرون هدفا أسمى من وقف النار حالا في غزة التي حاق بها التدمير والأمراض والتشوهات العائقة لكثير من أبنائها وأطفالها، ولن تعود غزة التي عرفوها.. فهل من نظرة أبعد يا عرب لو تأملتم التصريح المهم واليتيم لجلالة الملك الأردني بين أكوام التصريحات التي طالت أمر الحرب على غزة؟!