سامي شورش

من المقرر أن يشهد العراق نهاية شهر يناير (كانون الثاني) الجاري انتخابات مجالس المحافظات. في الواقع لهذه الانتخابات أهمية كبيرة، كون الدستور العراقي يعطي دوراً أساسياً للمجالس المحلية في إدارة شؤون محافظاتها، ما يضاعف من الأهمية، أن هذه الانتخابات تمهّد الطريق أمام الأحزاب والكيانات السياسية لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة نهاية العام الحالي. يشار الى أن الأحزاب التي تسجل انتصاراً في مجالس المحافظات ستكون في موقع أقوى لنيل عدد أكبر من المقاعد في الانتخابات البرلمانية، لأن مجالس المحافظات، في الوضع العراقي الراهن، تمارس تأثيراً سياسياً واقتصادياً واضحاً في الناخبين.

لكن المشكلة أن الانتخابات المحلية تأتي وسط احتراب سياسي، لا بين المكونات العراقية الكبرى: الشيعة والأكراد والسنة العرب والتركمان والآشوريين، إنما بين أطراف المكوّن الواحد. في الواقع، حافظت الأحزاب الكردية على وحدة موقفها واستقرار محافظاتها. بل نجحت في إطلاق برامج تنموية واقتصادية وعمرانية مؤثرة. ربما، هذا هو السبب في أن الحكومتين الفيدرالية في بغداد، والإقليمية في أربيل، اتفقتا على استثناء المحافظات الكردية: أربيل والسليمانية ودهوك، من إجراء انتخابات مجالسها.

أما كركوك، فإنها أُستثنيت من إجراء الانتخابات بتوصية من بعثة laquo;يوناميraquo; التي رأت أن الانتخابات في هذه المدينة التي يصطلح على تسميتها بالمتنازع عليها، قد تؤدي الى صراعات دموية بين مكوناتها الأربعة: الأكراد والعرب والتركمان والمسيحيين.

عدا الجزء الكردي، تعيش الخارطة الحزبية والسياسية في بقية العراق حالة تناحر سياسي لافت. فحزب الدعوة الإسلامية الذي يتولى رئيسه نوري المالكي رئاسة مجلس الوزراء، يعيش مشكلات حقيقية مع بقية الأطراف الشيعية في إطار قائمة الائتلاف العراقي الموحد، أهمها المجلس الإسلامي الأعلى بزعامة السيد عبدالعزيز الحكيم، الذي دخلت خلافاته مع المالكي مرحلة حملات إعلامية متبادلة على خلفية اتهامات وجّهها الحكيم الى رئيس الوزراء بمحاولته بناء حكم فرداني ودولة مركزية ديكتاتورية الطابع.

يشار الى أن المالكي بادر قبل نحو ثلاثة أشهر الى تأسيس قائمة انتخابية مستقلة لخوض انتخابات مجالس المحافظات، بالتحالف مع وزير النفط العراقي حسين الشهرستاني ومجموعات شيعية صغيرة وغير مؤثرة. أطلق على قائمته الجديدة اسم laquo;دولة القانونraquo;. لا يستبعد مراقبون أن يقدم حزب الدعوة على الانسحاب من الائتلاف العراقي في حال حصول مرشحيه على نسبة أصوات عالية في انتخابات مجالس المحافظات.

في مقابل التباعد الحاصل بين الدعوة والمجلس الأعلى، هناك تقارب غامض بين الأخير والتيار الصدري الذي يتزعمه الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر. معروف أن الصدر ساند المالكي في البرلمان وفي التصويت الخاص بانتخاب ممثل قائمة الائتلاف لرئاسة الحكومة. لكن الأخير سرعان ما أدار ظهره للتيار الصدري ودمر ميليشياته التي كانت تعرف بجيش المهدي في هجمات شنتها قوات حكومية عراقية في البصرة وبغداد والديوانية. الصدر الذي اشتهر بخلافاته الدائمة مع عائلة الحكيم، اضطر إلى الدخول مع المجلس الأعلى في مفاوضات تهدف إلى بناء تحالف انتخابي بعدما تخلى عنه المالكي. يذكر أن الصدريين ما زالوا يشكلون قوة سياسية مؤثرة في الساحة الشيعية العراقية، على رغم تخليهم عن السلاح وإعلانهم تحويل جيش المهدي الى مؤسسة خيرية مدنية.

الى هذا، هناك حزب الفضيلة المدعوم من رجال دين شيعة في محافظة البصرة. يشار الى أن الفضيلة دخل مرحلة خلافات حادة مع المجلس الأعلى من جهة، والتيار الصدري من جهة ثانية. السبب الأساس في هذه الخلافات تمثل في معارضة المجلس والصدريين فكرة تحويل البصرة الغنية بالنفط الى إقليم مستقل، فيما تمسك الفضيلة وحليفه القاضي وائل عبداللطيف بفكرة الإقليم، عارض الصدريون الأقاليم من أصلها، بينما دعا المجلس الى إقليم شيعي أوسع يضم تسع محافظات بينها البصرة.

معروف أن حزب الفضيلة والقاضي عبداللطيف أخفقا، قبل أسابيع، في جمع التأييد الكافي لإجراء الاستفتاء اللازم حول إنشاء إقليم خاص. هذا الإخفاق زاد من احتقان العلاقات بين الأطراف الشيعية. فالفضيلة رأى أن المجلس والصدريين، ومعهما حزب الدعوة، بذلا جهوداً لثني أهالي البصرة عن التوقيع على طلب الاستفتاء.

يشار الى أن الدستور العراقي ينص على ضرورة جمع تواقيع 10 في المئة من سكان أي محافظة بغية توفير النصاب القانوني لإجراء الاستفتاء الخاص بتحويلها الى إقليم مستقل داخل الوحدة الفيدرالية العراقية. حزب الفضيلة أخفق في جمع هذه النسبة، على رغم تمتّعه بغالبية المقاعد في مجلس محافظة البصرة الراهن. في سياق متصل، يرى الفضيلة أن المجلس الأعلى والدعوة، يحاولان فرض سيطرتهما على مجلس المحافظة في انتخابات نهاية الشهر الجاري لأسباب لا أقلها كون البصرة ميناء العراق الوحيد وتتمتع بغنى نفطي هائل وموقع إستراتيجي كبير لجهة اتصالها بالدول الخليجية من جهة، وبإيران من جهة ثانية.

الى هذا كلّه، هناك العشائر الشيعية التي أصبحت تتمتع بأهمية كبيرة في الحسابات الانتخابية، خصوصاً بعدما حاول المالكي مدّ نفوذ حزبه الى أوساطها عن طريق مجالس الإسناد. المجلس الأعلى عارض إنشاء مجالس الإسناد واعتبرها محاولة من حزب الدعوة لاستخدام موقعه في رئاسة الحكومة في اتجاه الحصول على أكبر عدد ممكن من أصوات الناخبين. لكن الأكيد أن المالكي لن يتخلى بسهولة عن هذه العشائر لاعتقاده أن التحكم بالمفصل العشائري في جنوب العراق مفتاح رئيس للحصول على تأييد المواطنين الشيعة.

أما في المناطق العربية السنية وسط العراق وغربه، فالحالة السياسية والحزبية ليست بأحسن. القوى العربية السنية افتقرت على الدوام الى مرجعية دينية أو قومية قادرة على رصّ كلمتها وتوحيد مواقفها. لكن الأهم أن التحول الهائل الذي حصل في بنية الحكم العراقي بعد تحرير العام 2003، وما رافق ذلك من صعود الشيعة والأكراد الى مؤسسة الحكم، أصاب هذه القوى بحالة مريعة من الذهول لم تستفق منها حتى الآن.

يضاف الى هذا، أن القوى العربية السنية، على رغم مشاركة بعض أطرافها في العملية السياسية، الحزب الإسلامي العراقي، وجبهة التوافق العراقية على سبيل المثال، إلا أنها أخفقت في بناء الثقة المتبادلة مع القوى الشيعية والكردية. هذه الفجوة، إضافة الى المشكلات التي واجهتها، آخرها استقالة رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني، أدت الى تشتت لافت في الموقف العربي السني. فهيئة علماء المسلمين منفيون في الخارج. المجموعات التي يتزعمها خلف العليان وصالح المطلك لا ترغبان في مشاركة مخلصة في العملية السياسية لنفرتهما الآيديولوجية من الوضع الراهن. لكنهما، في الوقت ذاته، لا يريدان الوقوف خارج إطارها لمعرفتهما أن العراق سيظل في هذه الحالة حكراً على الشيعة والأكراد.

أما جبهة التوافق، فإنها لا تني تشهد تفككات متزايدة. استقالة الشهداني زادت من حدتها. قبل أقلّ من عام، رأت أوساط سياسية أن القوى العربية السنية قد تشارك بحماسة في الانتخابات المقبلة. لكن الأكيد أن صراعاتها الداخلية قد تعيقها من المشاركة الحقيقية.

في كل الأحوال، الوضع الأمني في العراق لا يزال يعيش حالة عدم استقرار. كذلك الوضع السياسي والاقتصادي. المشكلة الأخطر أن الانتخابات المرتقبة لمجالس المحافظات، نهاية الشهر الجاري، بدأت تعمّق الخلافات السياسية، لا بين مكوّن ومكوّن، إنما بين المكوّن الواحد. وهذا في الحال العراقية مشكلة تنذر بخطر.