عبدالله علي العليان
في حياة الأمم والشعوب مواقف وأحداث من الصعب على البعض التيقن من وقوعها، لأنها تأتي بصورة متوقعة يعتقد الخصم أنها إيجابية ولمصلحته، لكن الأمر ليس كذلك، ومن ضمنها الحرب الوحشية الإجرامية على الشعب العربي الفلسطيني في غزة الصابرة، وهى جديرة بالتأمل لأنها حقيقة ذات أبعاد كبيرة وانعكاسات إيجابية، كما تشهد الأحداث والتحولات بعد ذلك، تمشياً مع المفاهيم والمعايير التي تحدد مسار هذه المتغيرات غير المتوقعة. فمن كان يتصور على سبيل المثال أنه خلال أقل من نصف قرن من حركة التاريخ أن ألمانيا ستتوحد مرة أخرى بعد الزلزال الذي حدث في شرق أوروبا؟ أو أن المتغيرات نفسها في الاتحاد السوفييتي ـ سابقا ـ ستؤدي إلى ما أدت إليه من ظروف تصل إلى تفكك هذه الدولة العظمى، وتراجعها عن مكان الصدارة ؟ أو أن الولايات المتحدة ستتعرض لهجمات في سبتمبر 2001 في قلب مدنها الكبرى تقلب كثيرا من المفاهيم والأفكار والنظريات في قدرة هذه الدولة المعلوماتية وإمكانياتها العسكرية في القرن الحادي والعشرين.
ومن كان يظن قبل ذلك أن اليابان التي هُزمت في الحرب الكونية الثانية ستعود أكثر قوة اقتصادياً وتكنولوجياً من أوروبا المنتصرة في جوانب عديدة، بينما تظل أمم أخرى من العالم تعاني التخلف والتبعية في عالمنا الراهن على المستوى: الحضاري والسياسي والفكري.
ومن كان يتوقع أن حزب الله اللبناني سينتصر على إسرائيل في حرب تموز 2006 مع الاختلاف الكبير في المعادلات العسكرية بينهما، والإمكانات والقدرات بين الطرفين. والآن فإن الحرب الإسرائيلية الظالمة على غزة، أبرزت انتصار laquo;حماسraquo; وبقية الفصائل من حيث عدم استطاعة إسرائيل وقف الصواريخ، والدخول إلى غزة والسيطرة عليها، ووقف المقاومة، وخرجت إسرائيل من غزة بلا شروط أو نجاح سياسي أو عسكري، مع أن كثيرين لم يتوقعوا صمود الشعب الفلسطيني في القطاع في وجه إسرائيل أمام حمم القصف العنيف والتدمير الرهيب وقتل الأطفال والنساء والمدنيين بصورة وحشية بربرية. وهذه التحولات سوف تفرز معادلات جديدة وأساليب غير معروفة، وهو ما يجعل الموازين تتغير في مسار الشرق الأوسط لمصلحة الحق والاستقلال غير المنقوص للفلسطينيين.
كل هذه الظروف قد تكون خافية على كثير من المحللين، لأنه ليس بإمكان أي مفكر أو باحث أن يحكم سلفاً حكماً إيجابياً يحدد تحديداً جازماً بما ستؤول إليه حضارة معينة أو مجتمع معين في فترة يقدرها حسب توقعاته، لأن ذلك أقرب إلى التخمين.
الولايات المتحدة سعت إلى صياغة تاريخ جديد للشرق الأوسط منذ سنوات وفق رؤيتها وبرامجها وأهدافها، من دون أن تستفيد من تجارب التاريخ ومتغيراته التي عصفت بالعديد من دول العالم عندما نهجت أسلوب القسر والفرض على الشعوب. وتلك نظرة قاصرة أثبتت عقمها وفشلها، وربما تعجل بانهيار الأنموذج المستبد وعدم نجاحه، وهذا ما تريده الولايات المتحدة، عندما أعربت أن هدفها بعد الانتهاء من حرب العراق السعي إلى صياغة أنموذج جديد للمنطقة العربية. ولم تتوقف عند هذا الحد، بل إنها أرادت أن تتقبل الدول الأخرى، حتى الكبيرة منها، ما تريده وما تسعى إليه من دون معارضة أو رفض، وما يجري في مجلس الأمن ـ في الأيام الماضية عند مناقشة الحرب على غزة ـ لهو شاهد على تلك النظرة الأحادية في تعاملها وتعاطيها في المسألة الفلسطينية وغيرها من المشكلات العالقة، وان كانت المياه تجري في غير مصلحة المعتدين.
فهل يعيد التاريخ نفسه؟ أم أن الحضارات هي التي تتراجع وتنكمش لأسباب لامجال لسردها الآن، ومن ثم تعود أحداث التاريخ بالوتيرة السابقة نفسها؟ فنتوهم أن التاريخ يعيد نفسه، وهو ليس كذلك, وفي تلك عبر كثيرة جديرة بالتأمل والمراجعة.
بعد وقف الحرب الإجرامية على غزة التي استهدفت النساء والأطفال والمدنيين العزل لم تحقق هدفا استراتيجيا حتى الآن على المقاومة، وهذه الهزيمة أو الإخفاق مردهما إلى الإرادة والإيمان بقضية انتصار الحق على الظلم، وان موازين القوة ليست معيارا دقيقا لتحقيق النصر وكسر شوكة المناضلين والمجاهدين، فلا يمكن أن تخسر الإرادة بنصر الله، أمام المعتدي الغاصب، مهما حشد ودمّر وقتّل وعاث في الأرض فسادا وتهديما، فمصيره مصير باقي الأمم الغابرة في متحف التاريخ .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.













التعليقات