رغيد الصلح

تحتل فكرة تحييد التعاون الاقتصادي العربي في الصراعات السياسية العربية مكانة أثيرة لدى الكثير من المعنيين بتطوير العلاقات العربية الوظيفية وبتحقيق التكامل الاقتصادي العربي. والنظرة السائدة بين هؤلاء هي أن التنافس السياسي بين النخب الحاكمة العربية يصل بها وبالدول التي تحكمها الى مستوى من الحدة يعطل إمكانية التعاون فيما بينها على كل صعيد، بما في ذلك الاقتصاد والثقافة والأمن. فإذا وهي إذا كبيرة أمكن تحييد الاقتصاد، وإذا قبل الحكام العرب أن تستمر العلاقات الاقتصادية في ما بين دولهم، وإذا ترك لحسابات الربح والخسارة العقلانية والاقتصادية أن تفعل فعلها حتى في ظل اضطراب العلاقات الاقتصادية، فإنه من المستطاع أن تتطور العلاقات بين هذه الدول.

لا يخطر ببال أصحاب هذه النظرة أن العلاقات تتطور على الصعيد الاقتصادي فحسب، وإنما ايضاً وأخذاً في الاعتبار نظرية التداعي ldquo;مًُّ-ٌٌىِسrdquo; التي هي ركن رئيسي في صيرورة التكتلات الاقليمية مثل الاتحاد الاوروبي ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وسوق أمريكا الجنوبية المشتركة (ميركوسور)، فإن تداعيات التعاون الاقتصادي المتنامي والمتطور سرعان ما تقتحم جدران العزلة والقطيعة، بل والحروب السياسية فتفرض التعاون بدلاً من التناحر، والاندماج بديلاً عن العدواة. ولقد كانت هذه الفكرة ماثلة أمام أعين الذين حضّروا وثائق القمة العربية الحادية عشرة في عمان عام ،1980 التي اعطت الاقتصاد أولوية مطلقة وصدرت عنها مقررات بالغة الأهمية على هذا الصعيد. وهكذا جاء بين قرارات تلك القمة قرار يؤكد ضرورة حماية العمل المشترك من الخلافات، وضرورة ldquo;الالتزام... بالقرارات التي تتخذ جماعياً والمحافظة على الاتفاقيات الثنائية والجماعية المعقودة بينها وبعدم التراجع عن هذا الالتزام في حالة حدوث خلافات أو تردي العلاقات بينهاrdquo;.

هذا البند من بنود القمة لم يسقط بعد القمة، ولكن حتى خلال انعقادها حدث تصدع كبير في الصف العربي وتحولت القمة نفسها الى سبب لمزيد من التأزيم في العلاقات العربية العربية، وكان نصيب القمة المقاطعة من قبل عدد مهم من الدول العربية. وما بقي من القمة وقراراتها، فقد ذهب مع الرياح والعواصف التي هبت على المنطقة جراء الحرب العراقية الايرانية، فغابت قرارات ومشاريع التعاون الاقتصادي المهمة التي اقرتها قمة عمان عن الأذهان ولم يعد يذكرها أحد، ناهيك عن دفنها قبل أن تصل الى مرحلة الإقلاع.

تجربة قمة عمان عام 1980 اثبتت أن الأولوية المطلقة هي للسياسة، وانه لا مجال لتحييدها ولا لتحجيمها ولا لإبعادها عن مسرح العلاقات الجماعية او الثنائية العربية. هذا الاستنتاج ردده الكثيرون من متتبعي العلاقات البينية العربية وهم يتابعون مجريات القمة العربية في الكويت. فأحداث غزة المأساوية، وحرب القمم والتوتر المتفاقم في العلاقات العربية العربية أرخى بثقله، وهو ثقل كبير، على قمة الكويت. فهل يكون مصير قرارات قمة 2009 مشابهاً لمصير قرارات قمة 1980؟ إن البعض ومنهم هذا الكاتب يأملون ألا يتكرر مشهد الثمانينات، وأن تبرهن قمة الكويت أنه بالمستطاع تهريب التعاون الاقتصادي العربي من قبضة الخلافات العربية حتى ولو علا ضجيجها. ولقد شهدنا في قمة الكويت ما يسمح ببعض التفاؤل. في هذا السياق يندرج القرار بعقد قمة اقتصادية دورية كل عامين والمبادرات التي اطلقت حول تنقية الأجواء العربية وتجاوز الأزمات بين الدول العربية ولقاءات المصالحات، حتى ولو اكتست بالطابع الشخصي، وحرص الكويت المضيف وصاحب مقترح القمة الاقتصادية على إبقاء باب التعاون والود مفتوحاً مع الجميع. بيد أن ذلك وحده لا يكفي، فمن أجل إنقاذ مشاريع التعاون الاقتصادي من عثرات العلاقات السياسية العربية من الضروري أن يتحرك المعنيون بهذا الأمر وخصوصاً الكويتيين الذين شكلوا قوة دافعة في اتجاهين رئيسيين:

* الأول، تشكيل هيئات متابعة جماعية وتابعة للقمة لمراقبة مدى التزام الدول الاعضاء بالمقررات الصادرة عن القمة الاقتصادية. فمشكلة العمل العربي المشترك، كما هو شائع ومعروف، لا تكمن في غياب المقررات القممية المتعلقة بالتعاون العربي، إذ لو طبقت الدول العربية، على سبيل المثال لا الحصر، بنود معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي التي وقعت في مطلع الخمسينات لكانت هذه الدول في احسن حال. مشكلة العمل العربي المشترك هي في تلك الهوة المضحكة بين القرار والفعل، بين الإعلانات البراقة الصادرة عن مؤتمرات القمة ونتائجها الفعلية والبائسة.

* ثانياً، جدولة قرارات القمة، أي تقديم الأهم على المهم وتحديد أولوياتها بدقة اكبر ووفقاً لمعايير عقلانية. وفي تقديرنا هنا أن التركيز على تفعيل وتطوير منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى يتقدم على سائر القرارات الأخرى المتعلقة بالتعاون الاقتصادي العربي. فتطوير المنطقة والتعجيل في تحويلها الى اتحاد جمركي فسوق عربية مشتركة يساهم الى حد بعيد في حل مشاكل البطالة في المنطقة، لأنه يفسح المجال امام اطلاق عجلة الانتاج، ومن ثم يوفر المزيد من فرص العمل امام المواطنين العرب. كما ان تطوير المنطقة يوفر بيئة استثمارية افضل لتشغيل الاستثمارات الاجنبية والعربية ويساعد على تنمية الصناعة والزراعة.

ان الدفع في هذين الاتجاهين يحتاج بالطبع الى جهود رسمية، والى متابعة من قبل اصحاب القرار المعنيين والمهتمين بتطوير العلاقات الاقتصادية العربية، ولكنه يحتاج الى مساهمة فاعلة من قبل الجهات الاهلية المعنية بهذه الاهداف، فحبذا لو تعاون الطرفان على إنقاذ الاقتصاد من براثن الخلافات السياسية، وفي نهاية المطاف، على تخليص العرب من صراعات ليست ضرورية وتستهلك طاقاتهم وتسد الطريق أمام ولوجهم مراحل التنمية الحقيقية والاستقرار والإصلاح السياسي.