مكرم سعيد حنوش

نقرأ بين الحين والآخر في الصحف المحلية انباء عن حدوث اعمال شغب وتوتر في العلاقات بين الاقباط والمسلمين في مصر, تؤدي الى وقوع قتلى وجرحى والى حدوث اضرار بالاملاك الخاصة والعامة, هذه الحوادث تقلق كل مواطن عربي, فتدفعه الى ان يفكر في ايجاد طرق لاستئصالها والحيلولة دون تكرارها, لانها تسيء اولا الى سمعة العرب والمسلمين ثم الى المواطنين وتثير الشحناء والبغضاء بينهم, فيما لا ضرورة له ولا فائدة منه ولا مصلحة لاحد فيه الا اعداء الاسلام والعرب. وكان من ابرز من عالج اسباب تلك الاحداث المؤسفة الدكتور جمال البنا الكاتب والعالم الاسلامي المعروف, وأحد الذين وعوا هذه المشكلة فعالجها في كثير من المقالات والابحاث. وتوّج ذلك كله بكتاب اصدره مؤخرا تحت عنوان: raquo;اخواني الاقباطlaquo;, وقد قرأته فوجدت فيه ما دفعني الى القول نعم المؤلف ونعم الطروحات الواردة فيه, وتمنيت لو كان هو نفسه من اصحاب القرار في مصر, لاراح مصر والمصريين من هذا الوباء, بل من هذا الداء الزنيم والشر القديم الذي لن ينتهي الا اذا ترسخت حقوق الانسان في مصر في كل المواطنين وادركوا جميعا ان ما يربطهم من روابط الايمان بالله الواحد واللغة العربية التي بها ينطقون ويتخاطبون ويكتبون, وبالتاريخ الذي الف بينهم منذ عشرات المئات من السنين, اي منذ ان اسقط العرب المسلمون الحكم الروماني. فأتاحوا لأقباط مصر المكانة وحرية العبادة ما لم يكن لهم في عهد امبراطورية الرومانية المقدسة التي سطرت اكثر المراحل تخلفا في تاريخ الانسانية, وهي مرحلة العصور المظلمة التي عمت اوروبا من القرن الخامس حتى القرن الحادي عشر منه, فسيطرت فيه الحكومة الدينية بقيادة بابا روما على الامبراطورية الرومانية الشاسعة وتحكم باباوات الفاتيكان بالاباطرة والملوك والقادة الرومان وغير الرومان ما عدا الكنائس المشرقية في مصر وسورية والعراق التي رفضت الخضوع للبابا وتمسكت بطقوسها الوطنية وحرياتها الدينية ومبادئ ايمانها المشرقي, رافضة مقررات مجمع نيقية (325م) ومجمع خلقيدونيا (451م).

وفي الواقع ان د. جمال البنا مهد الطريق لفريقي الامة العربية من مسلمين ومسيحيين لعيش ينتقل بهم من طريق الاشواك والخصام الى واحة الود والسلام, ولا بد لمن يتصدى لهذه المهمة الانسانية العظيمة ان يكون واسع الاطلاع على تاريخ الاديان وان يتحمل كل ما يتعرض له من اساءات واغراءات ليتنحى عن هذه المهمة التي يعارضها كثير من رجال الدين والساسة المتعصبين. ولا شك لدينا ان كتب التربية الدينية الوطنية الموضوعة في مصر ولبنان والعالم العربي نادرة وقليلة في هذا الميدان, منحازة نحو طوائفها واديانها, كما كانت تسيء الى تعاليم وتاريخ الطوائف والاديان الاخرى من ابناء الوطن. ومن مساوئ ذلك ان التعليم كان يجري في المدارس الطائفية ذات اللون الواحد, فلا يختلط التلاميذ باقرانهم من ابناء الطوائف الاخرى, الامر الذي يجذر الافكار الطائفية الموروثة فتنمو المساوئ ويتراكم جهل المواطن بدين المواطن الاخر, لا سيما وان الاختلاط بينهم محدود ان لم يكن امرا غير مرغوب فيه, ويبدو لنا ان اكبر جريمة في نظر رجال الدين والمتأثرين بفلسفتهم وافكارهم المنغلقة هي ان ينتقل احد اتباعهم من دين الى دين في الوطن نفسه, فهنا الطامة الكبرى والجناية التي لا مثيل لها. ولا زلت اذكر ان فتاة كاثوليكية في احدى القرى الاردنية قد اقترنت في اوائل القرن المنصرم بفتى ارثوذكسي, فما كان من الكنيسة الكاثوليكية الا ان تبرأت من ذلك العمل واقامت جنازا كهونيا على روح تلك الفتاة الشابة معتبرة اياها ميتة روحيا بخروجها عن طائفتها, هكذا كان الحال بين الكاثوليك والروم الارثوذكس فكيف يكون رد الفعل لو اختلف الدينان?

يرى الدكتور جمال البنا ان الاسباب التي وضعت مصر على طريق الاشواك الطائفية ثلاثة: اولها ظهور الجماعات الاسلامية الضالة التي قدمت فهما سيئا مغلوطا عن الاسلام اوقع الخوف في نفوس الاقباط. وثانيها سياسة البابا شنودة انسياقا وراء طموح ونهضة الكنيسة القبطية واستئثاره بتمثيل الاقباط في المسائل الدنيوية والدينية. وثالثها سياسة الرئيس السابق انور السادات الذي لجأ الى البطش الامني لحسم المشكلات مع حرصه على البقاء في السلطة. ويرى الدكتور جمال ان هذه الاسباب قد زالت الان او في طريقها الى الزوال. ويرى ان طبيعة الشعب المصري الدمثة المسالمة قادرة على صهر هذه الاسباب والتخلص منها. ويرى في تلاقي المسيحية والاسلام ما يكمل منهما الآخر: فالمسيحية لم تضع قانونا للاحوال الشخصية ولا فرائض في الحكم ولا في السياسة انما تقوم على المحبة والايثار حتى بالنسبة لاعدائها. والاسلام يعترف بالمسيحية ويجعل من العذراء مريم سيدة نساء العالمين, كما ان القرآن الكريم يتحدث عن المسيح حديثا وديا يكاد ان يكون مسيحيا. فحسب له من العجائب ما لم تذكره الاناجيل: فهو كلمة الله وروح منه, ويرى الاسلام ان النصارى هم اشد الناس مودة للمسلمين, ذلك ان منهم رهبانا وقسيسين وانهم لا يستكبرون. ويضيف الى ذلك ان الاسلام اتى بعد المسيحية فلم تعترف به لاستحالة ذلك. لكن القديس بطرس نال وحيا من الرب مفاده ان الوثنيين وغير المسيحيين ايضا يدخلون ملكوت السماوات (اعمال الرسل 10) اما الاسلام فقد اتى بعد المسيحية بستة قرون فاعترف بها وبدينها وبكتابها واكد ذلك في عديد من الايات البينات. وفي الواقع ان الاسلام هو الوحيد بين الاديان السماوية الذي يعترف ويحترم تعددية الاديان لا سيما وان القرآن يقول:..وقولوا امنّا بالذي انزل الينا وانزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمونlaquo; سورة العنكبوت 46

حقوق الاقباط

بعد تفصيل وبحث مسهب يرى الدكتور جمال البنا (ص 278) انه من الواجب ان تتوفر لاخوانه الاقباط الحقوق التالية:

1- ان يكون عدد نوابهم في مجلس الشعب متناسبا مع نسبتهم العددية على ان يبدأ بثلاثين نائبا.

2- ان يكون لهم حق بناء الكنائس لاداء الشعائر الدينية دون عوائق.

3- ان يكون الترشح للوظائف العامة على اساس الكفاءة فقط.

4- ان يتضمن تاريخ مصر اشارات الى الفترات الزمنية التي مثلت الشخصية القبطية فيها شخصية مصر, حيث كانت رمز مقاومة المحتلين خلال القرون الاولى للميلاد. وان يشار الى تفاني الاقباط في الدفاع عن الوطن وان يشار كذلك الى الشخصيات الوطنية القبطية كمكرم عبيد, وسلامة موسى وواصف ويصا وغيرهم.

5- ان يذاع قداس الاحد على القناة الرئيسية وان يشار في اجهزة الاعلام الى الاعياد المسيحية كلها.

6- اذا غيّر الزوج دينه وترتب على ذلك الابتعاد عن زوجته, يكون عليه ان يدفع لها تعويضا مجزيا, مساويا لما يدفعه من يطلق زوجته دون ذنب.

7- ان لا يكون هناك قيد على حرية المعتقد.

ويرى الدكتور جمال البنا ان يحب الاقباط لغيرهم ما يحبون لانفسهم, فكما لا يريدون مساسا بالمسيحية عليهم ان لا يمسوا الاسلام, ويجب الاقلاع عن التبشير بالمسيحية والاسلام, لان التبشير ينطوي على تفضيل دين على آخر, كما يجب ان لا تمس حرية الفكر في دراسة الاديان دراسة جادة قائمة على اسس علمية, ويرى ان تدار الكنيسة إدارة ديمقراطية. وان يتولى المجلس المالي ادارة الاوقاف والشؤون المالية ادارة مستقلة عن الكنيسة وان ينتخب من الاقباط انتخابا حرا. وقد اسهب الدكتور جمال البنا في بحث العلاقات القبطية الاسلامية في كتابة هذا الذي تصل صفحاته الى 300 من القطع الكبير.

إحياء الاسلام

ويرى الدكتور جمال انه لا يمكن تحقيق اي احياء للاسلام الا بالعودة الى القرآن الكريم وطرح التفاسير وضبط السنة بضوابط القرآن الكريم, وعدم التقيد بما وضعه الاسلاف من اجتهادات ومذهبيات تأثروا فيها بروح عصرهم وسيادة الجهالة واستبداد الحكام وصعوبات البحث والدرس. فانعكس ذلك على تفاسير القرآن واحكام الفقه والحديث وادخل فيها مفاهيم دخيلة مناقضة لروح الاسلام (ص 300).

ويؤكد د. البنا ان الاسلام كان اصلا دعوة حضارية لانقاذ الناس من الظلمات الى النور واحلال الكتاب والميزان, اي المعرفة والعدل, محل الجهالة والظلم والطبقية واشاعة الخير والعدل والعلم.

ان هذا الكتاب القيّم الذي سطره العالم الانساني الكبير الدكتور جمال البنا هو مدخل الى بناء علاقات انسانية متينة بين المسيحية والاسلام, لان النبي حفظ للديانة المسيحية مركزها وايد جلالها وصحة الكثير من تعاليمها ونادى بوجوب احترام تعليماتها وكتبها واشار بإسهاب الى عالمين قبطيين سارا هذا المنهج هما الاب ابراهيم لوقا والاسقف غريغوريوس. وقد كتب هذا الاسقف مقالا في مجلة الهلال سنة 1981 جاء فيه: raquo;لعل ما يخدم قضية الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين ان يتبين ابناء مصر الامور التي تجمع بينهم روحيا وعقائديا, بما يدعم المحبة بينهم ويوطد وشائج المودة ويقوي اواصر الوحدة الوطنية, فيجعل منهم امة لا تندحر, صلبة لا تقهرlaquo;.

وموقف الاسلام الايجابي هذا من المسيحية هو تماما يتعارض وموقف اليهود الذين اهانوا السيد المسيح وثاروا عليه ورفضوا رسالته واساءوا اليه حتى قتلوه وعادوا اتباعه جميعا ولا يزالون, بكتابهم المقدس الثاني raquo;التلموذlaquo; الذي يجسد الافتراء والايذاء والشحناء ضد المسيح وامه العذراء مريم. هذا الافتراء لا يزال قائما حتى الان لم يعتذر الاحبار اليهود عنه, ولم يتراجعوا وعلى الرغم من هذا فان بعض الجمعيات المسيحية تطبع التوراة والانجيل في مجلد واحد في مختلف اللغات تحت عنوان raquo;الكتاب المقدسlaquo;, فالكنائس المسيحية كلها ومنها الارثوذكسية والقبطية تحترم التوراة وتقدس انبياءها دون ان تفعل الكنائس او المحافل اليهودية شيئا مقابل ذلك. فتقوم الكنائس المسيحية بطبع 1258 صفحة من التوراة و422 صفحة من الاناجيل في مجلد واحد وتوزع في العالم, فهل من المعقول او المقبول في عالم اليوم ان يستمر رجال دين يقل عدد اتباعه عن عشرين مليون يهودي, في اهانة السيد المسيح ووالدته السيدة العذراء مريم, واهانة المسيحيين الذين يصل عددهم الى الفي مليون شخص.

لقد آن الاوان لرجال الدين المسيحيين في العالم بأسره ان يتصدوا لهذه الاهانات المستمرة التي تتنافى مع الحقائق التاريخية والاداب الدينية والاخلاقية, فاذا كان المال اليهودي قد اشترى من اشترى في الغرب المسيحي فيجب على رجال الدين المسيحيين في المشرق التصدي لهذا الافتراء اليهودي الوارد بالتلموذ وشجبه والتنبيه الى ضلالته وكشفه لابناء طوائفهم وسائر المواطنين. لا سيما وان الكنيسة الكاثوليكية قد قدمت اعتذارا في المجمع الفاتيكاني عام 1965 عن الاحقاد والاضطهادات وجميع انواع اللاسامية التي المت باليهود, ايا كان عهدها وايا كان فاعلوها. لقد قدمت الكنيسة هذا الاعتذار دون ان تطلب شيئا مقابل ذلك من الاحبار اليهود, او تراجعا عن اعتبار السيد المسيح, كما هو وارد في التلموذ, اي انه ابن غير شرعي لمريم العذراء, او ان تطلب على الاقل اعتذارا عن ذلك لا سيما وان في ذلك مغالطة تاريخية عظمى, وعلى احبار وعقلاء العالم المسيحي رفضها ووضع حد لها لانها اهانة لا حد لها لمسيحيي العالم, بدأت منذ فجر المسيحية واستمرت الى يومنا هذا. وقد ذكرت جريدة raquo;البناءlaquo; الغراء (22/8/2009) ان احبار يهود بارزين احتجوا على وثيقة صدرت عن المؤتمر الامريكي للاساقفة لانهم يخشون ان ينطوي ذلك على دعوة اليهود لاعتناق المسيحية.

ولا بد لي في نهاية هذا المقال من الاشارة ايضا الى النداء الذي وجهه, بمناسبة عيد الميلاد المجيد, سماحة السيد محمد حسين فضل الله, بتاريخ 25/12/2007 الى المسيحيين كافة, لينطلق الاسلام والمسيحية معا في الدعوة الى ان يعيش الانسان انسانية الاخر في التزامه الديني على اساس الحديث المأثور: raquo;لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لهاlaquo;. ويرى سماحته ان المشكلة ليست بالتبشير المسيحي او الدعوة الاسلامية بل في الاستكبار العالمي والتبشير بعالم الشر والقتل والعداوة ومنح الغطاء للظلم والطغيان والاحتلال الاسرائيلي الذي يرتكب ابشع المجازر في مهد السيد المسيح ومسرى النبي الكريم, الامر الذي يستدعي وقفة جامعة ضد هذا المنطق وهذه السياسة التي تمثل النقيض الصارخ لكل القيم المسيحية والاسلامية. ويدعو سماحته من موقفه الاسلامي الى التعاون مع المؤسسات المسيحية وغير المسيحية لخلق بيئة انسانية عالمية حيث تقوم المسيحية والاسلام برصد الممارسات التي تنطوي على مضامين الظلم والطغيان والارهاب والاحتلال والوحشية ضد الانسان, لخدمة المستضعفين ولاثارة الموقف المضاد للظلم كله لمصلحة العدل الذي هو القاعدة الانسانية للدينين معا. والدين الذي لا يقوم على العدل والمساواة بين الناس واحترام وجودهم وحقوقهم في هذه الحياة ليس من الدين في شيء.

كتاب الدكتور جمال البنا ونداء سماحة السيد محمد حسين فضل الله الى المسيحيين جديران بالدراسة والقبول لانهما يمثلان جوهر الدين ورسالته الحقة واغراضه السامية.