محمود الريماوي

رغم التوجه الصائب لإعلان الجانب الفلسطيني قيام دولة مستقلة في حدود العام 1967 ، فإن هذا الإعلان ما زالت تحف به مشكلات كبيرة. أولى هذه المشكلات أنه لم يقرّ في وعي العالم أن هذا التوجه يشكل خياراً جدياً لأصحابه. بالنظر لتضارب التصريحات، فإنه ليس واضحاً إن كان التوجه بمثابة مناورة ووسيلة ضغط لاستئناف التفاوض مصحوباً بتجميد الاستيطان، أم أن الأمر يتعلق بخيار جدّي أملته القناعة بعبثية التفاوض جنباً الى جنب مع تعظيم الواقع الاحتلالي؟

تتأسس هذه المشكلة على مشكلة أخرى، وهي غياب القرارات المركزية والمؤسسية. فإطلاق تصريح من هنا أو هناك، يفترض أن يعكس سياسة جرت مناقشتها وإقرارها، والتنسيق بشأنها مع الاطراف العربية والدولية، ويتم التمسك بها. وهذا ما لا تشي به الأجواء السائدة. فقد جاءت التصريحات التي أطلقها على الخصوص صائب عريقات مفاجئة، وسرعان ما اندرجت في سلسلة مفاجآت سابقة مثل اعتزام محمود عباس عدم الترشح ثانية لرئاسة السلطة، ومثل القرار بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في يناير/ كانون الثاني المقبل ، ثم بيان لجنة الانتخابات المركزية بتعذر الوفاء بهذا الاستحقاق مع رفض حركة حماس هذه الخطوة في قطاع غزة. وقبل ذلك كانت مفاجأة أطلقها احمد قريع مفادها أن هناك توجهاً للتخلي عن هدف إقامة دولة مستقلة والاندراج في دولة ثنائية القومية.

مشكلة ثالثة تعترض هذا التوجه وتتمثل في كونه يأتي في ظروف الانقسام بين شطري الوطن: قطاع غزة والضفة الغربية، وإطفاء الزخم الشعبي في الشطرين، وتكرار عباس لأقواله بقرب مغادرته سدة الحكم، ما يشير الى أزمة قيادة أو فراغ وشيك في الموقع الأول. وظروف كهذه ليست مثالية لإعلان قرار استراتيجي مثل قيام إعلان الدولة على الأرض.

وإذا ما تجاهل المرء التهديدات ldquo;الاسرائيليةrdquo; التي لا جديد فيها، فإن الاعتراض الأمريكي والتنصل الأوروبي مع الصمت العربي، تشكل معاً نتيجة متوقعة لتوجهات تتخذ رغم صوابيتها طابعاً ارتجالياً. والأشد سوءاً أن الحقوق الثابتة والتضحيات الهائلة تغدو في النتيجة، مجرد فكرة طائرة في الهواء يشيح كثيرون بأبصارهم عنها، أو لا يجد البعض ما يدفعهم لأخذها على محمل الجد حتى من مناصري هذه الحقوق.

الاحتلال ليس بحاجة لضوء أخضر من أحد كي ينفذ مخططاته التوسعية، والذهاب إلى مجلس الأمن قد يشكل وقتاً إضافياً كي ينفذ الاحتلال تحت دخان مناقشات محمومة داخل مجلس الأمن أو في أروقته، المزيد من خطواته ldquo;الأحاديةrdquo; في تهويد بيت المقدس وسحب الأرض من تحت دولة فلسطينية عتيدة. والاحتلال ليس بحاجة لضوء أخضر من أحد ولا يعبأ باعتراضات أحد وهو ينفذ مخططاته التوسعية، فيما يضع الجانب الفلسطيني الرهانات كلها على العامل الخارجي.

لا يرمي ما تقدم الى نعي الخيارات والبدائل كلها. فالصحيح أن خيار الاستقلال يظل قائماً ويتمتع بالواقعية وذلك في ضوء قناعة ldquo;المجتمع الدوليrdquo; بالحق في إقامة دولة مستقلة، كشرط لإحلال السلام. غير أن المعضلة تكمن في طرح هذا الهدف في فضاء من المناورات السياسية والجهود الدبلوماسية التقليدية ، في غياب بيئة داخلية تضغط على العالم للاعتراف بهذا الحق والعمل بمقتضاه.

وهكذا بينما يجري تجييش المجتمع ldquo;الإسرائيليrdquo; وراء مشروع تهويد القدس الشرقية المحتلة والاستمرار في الاستيطان وبناء الجدار، فإن المواطن الفلسطيني تحت الاحتلال يجد نفسه مدفوعاً لانتظار نشرة أخبار تحمل أنباء سارة مفاجئة وليس غير ذلك، بعد نشر ثقافة مفادها أن الدبلوماسية وحدها طريق الخلاص. وهذا ما قدمه عباس لشعبه عبر نهجه البيروقراطي في السنوات الأربع المنصرمة. وإضافة للسلطة فإن حالة التيه باتت تشمل غالبية المجتمع المدني والسياسي، في ظاهرة لم تشهد الأرض المحتلة مثيلاً لها منذ أربعة عقود وأكثر.

والخشية أن تؤدي أية اهتزازات ارتدادية لحالة فراغ رئاسي، الى تقوية شوكة الاحتلال وتعميق حالة الانقسام الفلسطيني، في غياب مبادرات وطنية جماعية لملء الفراغ، بصورة تمكن من استعادة جذوة الكفاح المدني والاجتماعي وإعلاء شأن الوحدة الوطنية، والتجند لرفع شعار إنهاء الاحتلال في الضفة وغزة، بدلاً من الانزلاق لأشكال جديدة من التنافس على سلطة، باتت تستنفذ أكثر فأكثر فاعليتها الوطنية، وتتحول هنا وهناك الى أداة لنفوذ خارجي ولأجندات خارجية، فيما المشروع الوطني العام والجامع يتعرض للتجويف والتآكل، إلا إذا بادرت قوى وطنية واجتماعية عريضة ، لتحويل مشروع الإعلان عن دولة على الأرض في الضفة والقطاع، الى برنامج سياسي لها يخترق كل انقسام ويحفز القوى الحية النهوض باحتجاجات مديدة ومنسقة ضد الاحتلال بمختلف تجلياته المدنية والعسكرية، وبما يضع العالم أمام استحقاق المطالبة بانسحاب قوات الاحتلال.