منتظري.. من ولاية الفقيه إلى التمييز بين الديني والسياسي
صلاح الجورشي
quot;كنا في زيارته وكان يخطب في وفد كبير من قوات الحرس الثوري القادمة من مدينة سمنان.. قرّعهم بشدة على تصرفاتهم الأمنية غير الدقيقة وتغطيتهم لها بالشرع.. وقال: يمر بكم من يحمل قارورة فيها سائل ملون، أحمر مثلا أو أبيض، وتعتقلونه على أساس أنه يحمل مسكرات، ويتبين العكس، فتتركونه وهو شاعر بالمهانة. أما الشرع فإنه لا يجيز لكم مثل هذا التصرف بأي حال من الأحوال، لماذا تهتكون أسرار الناس؟ يجب أن تكفوا عن تشويه الشريعة بأمزجتكمquot;.
هذه الفقرة نقلتها من مقال كتبه الصديق هاني فحص على إثر وفاة آية الله منتظري، وضمنه شهادته في هذا الهرم الذي هوى. وقد ذكرني ما قاله عن الرجل بأول زيارة لي إلى إيران، حيث أخذنا المرافق مع بعض الصحافيين إلى حضور درس من دروسه عندما كانت صورته توضع إلى جانب صورة الإمام الخميني باعتباره نائبه والمرشح لخلافته. ورغم أنه في تلك المرحلة كان لا يزال مؤمنا بولاية الفقيه ومنظّراً لها، إلا أن في لغته شيئاً يميزه عن كثيرين ممن التقينا بهم. بدا وكأن حرصه الشديد على نقاوة الثورة جعله شديد الخوف عليها من الدولة التي قامت باسمها ولحمايتها. لكن مع ذلك لم يدر في خلدي أن هذا الرجل الذي يحتل كل تلك المكانة، سيجد نفسه بين عشية وضحاها معزولا، وفي إقامة جبرية استمرت سنوات طويلة حتى كاد ينساه الجيل الإيراني الجديد.
لم أعرف قيمة الرجل وجرأته واستقامته الأخلاقية إلا عندما قرأت نص الرسالة التي وجهها لمرشد الثورة الإمام الخميني، يحتج فيها على الأساليب القمعية التي استعملت يومها لتصفية قادة وأنصار وشباب تنظيم مجاهدي خلق. ورغم هذا التنظيم كان يكثر الحديث عما يتعرض له أعضاؤه من تعذيب وقتل جماعي، إلا أني كنت أخشى أن يكون ذلك مضخما بهدف تأليب الرأي العام المحلي والدولي ضد سلطة ثورية ناشئة تواجه حصارا دوليا وإقليميا إلى جانب صراع دموي داخلي على السلطة. لكن، رغم دقة المرحلة ومخاطرها المباشرة وغير المباشرة، ورغم أن الرجل لم يكن يشاطر الفكر السياسي لهذا التنظيم ولا أسلوبه العنيف الذي كان له أسوء الأثر، فإن الشيخ منتظري لم يتحمل أن تسفك كل تلك الدماء لآلاف الشباب باسم حماية الثورة والدفاع عن الإسلام.
أهم ما ميز سيرة هذا الرجل هو ما قاله الشيخ هاني فحص الخبير في الشؤون الإيرانية، والذي يتمتع بنظر ثاقب وبروح متعالية عن المذهبية رغم عمامته السوداء. قال في معرض شهادته: quot;ومن موقع الراعي والتاريخي شارك الشيخ حسين منتظري في وضع الدستور، وكان من أهم مؤصّلي مسألة ولاية الفقيه، ولكنه عالم أولا وسياسي ثانيا أو ثالثا، ومن هنا استمر ولم يكف عن إعادة النظر في المسألة شأن العلماء، وانتهى في آخر المطاف إلى الانحياز للتمييز بين الدين والسياسة وبين الدين والدولة، وكتب فقهاً متراجعاً عن الولاية المطلقة للفقيه، داعياً إلى (نظارة الفقيه)، أي تحويل الفقيه إلى رقيب وناظر وإلى موقعه الإرشادي لا المولوي في إدارة الدولةquot;.
ولا شك في أن هذا التحول في موقف الفقيد من مسألة جوهرية حددت منذ البداية مصير الثورة الإيرانية، لم تُمْلِه ظروفه الشخصية التي أخرجته من دوائر السلطة، وإنما جاء نتيجة تأملاته في تجربة تحويل نظرية ولاية الفقيه إلى نمط حكم. وبقدر ما كانت النظرية مغرية في البداية وملهمة لمؤسسي الدولة الإيرانية الجديدة، نظراً لما حملته من وعد بحكم العلماء مثلما بشّر البعض بحكم الفلاسفة، وما توحي به الأطروحتان من نزاهة الفقهاء وحكمة الحكماء، إلا أن التجربة أظهرت مرة أخرى أن للحكم آلياته الخاصة ومنطقه الداخلي، مما يجعل ممارسة السلطة مختلفة كثيرا عن التنظير لها. وهو ما جعل منتظري وغيره من كبار مراجع الشيعة يلتقون مع أغلب علماء السنة بأن يطالبوا بفقيه يراقب ولا يحكم. مكانه بين الأمة والناس وليس في أعلى هرم السلطة أو في خدمتها. عندها يكون صوتا من أصوات المجتمع المدني وليس قوة قهرية يقمع الناس باسمه وتحت ريادته.
التعليقات