طيب تيزيني

ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام، تتلخص في أن المصطلحات الفكرية قد تتأخر في نشأتها، ضمن حقلها المعرفي، عن الأفكار التي تعبّر عنها وتؤسس لها. وهذا بالضبط ما طبع مراحل نشوء عدد كثير من المصطلحات في التاريخ الفكري، مثل التقدم والتخلف والتنوير، وكذلك المجتمع المدني والعلمانية. والبشر -والعلماء والباحثون من ضمنهم- لا يتوصلون إلى نتائج نشاطهم العلمي حالما يتعاطونه، وإن بكثير من الدقة والضبط. والسبب في ذلك يكمن في تعقُّد الظاهرة العلمية وفي كونها مركبّة. وهذا يستلزم جهوداً كبيرة ولها طابع الاستمرارية، مما يعني أن الإحاطة بها بالاعتبار الاصطلاحي قد تطول مديداً بين تدقيق وتصويب وتعميق...إلخ. بل ثمة مجموعات من العلماء تغيّر مصطلحاً أو آخر اعتقاداً بضرورة الإحاطة به أعمق معرفياً (وربما كذلك إيديولوجياً) وكذلك بدقة أكبر، مِما يُبقي الباب مفتوحاً حِيال ذلك. وتوافقاً مع هذا، فإن المفكر العربي فرح أنطون قدّم -في سياق حواره مع الشيخ محمد عبده- مصطلحاً آخر للعلمانية هو quot;الحِيادةquot;.وقد أتينا على تلك المعطيات للإشارة إلى أن الفكر العربي المعاصر مُتخم بمثل تلك المصطلحات، التي تكاد أن تكون قد تحولت إلى إشكاليات. ويهمنا هنا الآن اثنان منها، هما المجتمع المدني والعَلمانية. فالمعنى الذي يمكن استنباطه منهما على نحو مباشر وتلقائي، هو -بالنسبة إلى المجتمع المدني- الإقرار بمنظومة العلمانية- تأكيد على أن المجتمع المدني هو مرجعية العلمانية.
وقد عمق quot;آلان تورينquot; تلك الجدلية، حين جسّدها، بدورها، بجدلية الديمقراطية والدولة القومية، أي كذلك بجدلية المواطنية والديمقراطية (انظر: آلان تورين - ما هي الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية)؟

وإذا كان الأمر كذلك، فإن quot;المجتمع الأهليquot; مغاير للمجتمع المدني بسبب من أنه يتأسس على علاقات القرابة والطائفة والعشيرة والإثنيات والمذاهب القائمة، في حين أن الثاني يجد مرجعيته في المجتمع الوطني أو القومي، الذي يمنح الجميع حقوقهم الكبرى والصغرى في مواطنياتهم. وكما هو واضح، يمكن كذلك القول بأن المجتمع المدني لا يلتقي مع المجتمع الديني، حيث يُنظر إلى الناس في ضوء مذاهبهم ومرجعياتهم الدينية. بل إن مفهوم الوحدة المجتمعية يغيب هنا لصالح ما يمكن أن يؤسس لنيران قابلة للانفجار بين من هم دون مستوى المرجعية الوطنية العامة والمشتركة.

وبهذا، نعثر في بواكير التاريخ العربي الإسلامي على ما يقترب من المجتمع المدني التضامني ممثَّلاً بـquot;دستور المدينةquot;، الذي أبدعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في صيغة النظر إلى ما يؤاخي بين سكان المدينة يثرب، مجسَّداً بالمرجعية الدينية المشتركة بين الجميع، وبقيت لكل فئة منهم مرجعيتها الدينية (انظر: تاريخ الطبري). ومن شأن هذا أن المحافظة على قداسة الأديان تحولت إلى واجب للجميع، يداً بيد مع التضامن في البناء والتقدم والدفاع. ومن ثم، فإن المماهاة بين المجتمع المدني الديمقراطي وبين المجتمع الوطني في العالم العربي، يمكن أن تسهم بأمرين اثنين، إنهاء الاستفراد بالحكم من طرف ما، والدخول في مهمة إعادة بناء العالم إيَّاه.