نبيل عمرو
تصاعد الحديث عن قرار تاريخي سيتخذه الرئيس عباس خلال الأيام القادمة، ويرجح أن هذا القرار سيعلن أمام لجنة المتابعة العربية التي ستعقد على هامش القمة في سرت لبحث مسألة المفاوضات والاستيطان.
وقد تعددت الاجتهادات والاستنتاجات نظرا لغموض الصيغة التي استخدمها عباس في حديثه عن القرار التاريخي، فهنالك اجتهاد بني على قوله في الطائرة للصحافيين إن هذه المرة ستكون الأخيرة التي يسافرون فيها معه، مما قرب الاستنتاج بأن الرجل ينوي مغادرة موقعه قريبا.. وهنالك اجتهاد آخر يتصل بالسياسة وليس الشخص، حيث قيل إن الرئيس الذي جاهد طويلا من أجل حل الدولتين سيسحب هذا الحل من التداول مستبدلا به حل الدولة الواحدة، أي الدولة الديمقراطية التي تعتبرها إسرائيل صيغة دبلوماسية لتصفيتها وإنهاء أي احتمال للحل السياسي معها.
وهنالك استنتاج هو الأقرب للممكن إلا أنه لا صلة له بآخر سفرة للصحافيين، ولا بتاريخية القرار وهو الذهاب إلى المنظمة الدولية، إذ لا يمكن اعتبار هذا الخيار تاريخيا لأن الأمم المتحدة كانت وعلى مدى عقود موطن القرارات الكثيرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، حتى إن أحد أسباب اندلاع الثورة المعاصرة أنها كانت نوعا من التمرد على رتابة المعالجة الدولية للقضية، واستبعاد إمكانية الحلول السياسية العادلة لها تحت أسقفها.
هل نحتاج إلى ساحر أو محضر أرواح ليدلنا على أي من الاجتهادات الثلاثة نراهن؟
إن ما لفت نظري في كل هذه الاجتهادات هو الأول، أي المتصل بالاستقالة، وإنني وبمجرد الاستنتاج أرى أن الرئيس عباس راغب فعلا في الاستقالة، إلا أنه لا يستطيع، وإذا كانت الرغبة مفهومة بحكم ضيق الرجل بالأزمات المتصلة وغياب الآفاق المشجعة، واصطدام خياره الواحد بجدران قريبة جدا من الاستحالة، فإن مجرد تخيل مضاعفات المغادرة المفاجئة للموقع كفيل بجعل الإقدام عليها أخطر بكثير من الاستمرار، وأعمق أذى للرجل والشعب والقضية، ذلك أن الاستقالة من دون تحضير للمؤسسات ومن دون تحضير أكثر لمسؤولية الخلافة هي الوصفة الأكثر نجاعة للانهيار وطغيان الفوضى وعودة الأوضاع إلى درجة غير مسبوقة من السوء والغموض.
إن الاستقالة أو حتى التلويح بها أمر فيه الكثير من المؤثرات السلبية المدمرة، خصوصا حين تكون بمثابة احتجاج على الخصم، مما يحيط أهم موقع قيادي فلسطيني بكثير من التساؤلات بدءا من laquo;لماذا إذن..raquo;، وليس انتهاء بـlaquo;ما دام الأمر كذلك..raquo;.
إن التصدي لقيادة شعب وقضية بما لها من خصائص استثنائية وتعقيدات شديدة الصعوبة، ينبغي أن يكون محسوبا سلفا كي لا تكون الاستقالة كالموت المفاجئ.. لمسار بكامله ولوضع بني على هذا المسار.
إن من حق السيد محمود عباس أن يستقيل، لكن ليس قبل إجراء ترتيبات محكمة لا تجعل الاستقالة ذات مضاعفات كارثية، ولقد مررنا نحن الفلسطينيين بتجارب في هذا المجال منذ إقالة الشقيري، ومرورا باستقالة يحيى حمودة، ثم فراغ موقع الرئاسة بوفاة الرئيس ياسر عرفات، ومع أن غياب عرفات ترك فراغا كبيرا لا يستطيع أحد الزعم بأنه مُلئ ولو جزئيا، فإنه كان واضحا أن هنالك خليفة جاهزا للعمل منذ اليوم الأول، لذا قيل إن الفلسطينيين أهل الثورة والفوضى نجحوا في امتحان الانتقال السلس للسلطة من عرفات إلى عباس، وهذا ما يطرح السؤال: ترى هل بوسع عباس القول إنه سيغادر مرتاح البال والضمير وإنه - الآن - يرى انتقالا سلسا للسلطة مثلما حدث معه؟
يوم مغادرة عرفات كان كل شيء مختلفا عما نحن فيه. لم تكن حماس قد جردت فتح والمنظمة وأهل أوسلو من أوسلو بنجاحها المبالغ فيه في انتخابات المجلس التشريعي.. ولم تكن غزة قد انسلخت عن جسم السلطة إثر الانقلاب.. ولم تكن منظمة التحرير سياسيا ومعنويا وكيانيا ضعيفة إلى هذا الحد، فقد كانت كوفية عرفات تعوض النقص.. ولم تكن السلطة عاجزة عن إجراء الانتخابات المحلية مثلما حدث قبل أشهر قليلة.. ولم تكن عملية السلام قد بلغت هذا الدرك الأسفل رغم حصار عرفات وإفراط إسرائيل في استخدام القوة والجرافات.
إنني لا أنصح بالإكثار من الحديث عن الاستقالة في هذا الوقت بالذات، ولا أنصح بالإكثار من تقديم الالتماسات والرجاءات كما لو أن الشعب سيصبح يتيما لو تقاعد أو استقال عباس.. إنني أنصح بأنه إذا كان الرئيس راغبا فعلا في ترك موقعه فعليه أولا إعداد الساحة لهذا واستخدام سلطاته وإمكاناته في أمر جعل انتقال السلطة سلسا كما حدث معه ومع سلفه الراحل الكبير عرفات.
لقد عرف عن الرئيس عباس أنه كثيرا ما يلوح بالاستقالة إما في لحظات غضب أو إحباط، وبقي أن يعرف بعد تجربة أن معاودة التلويح بهذا الأمر من دون استعداد جدي لتأمين الانتقال السلس والدستوري والمقنع للسلطة، ستؤدي إلى مزيد من إضعاف الرئاسة ودورها وما تبقى من رهانات عليها.. وهي ليست كثيرة على كل حال.
التعليقات