ياسر سعيد حارب


كنتُ أتحدث مع رؤساء تحرير بعض الصحف الإماراتية عن غياب الكاتب الإماراتي من صفحات جرائدهم، حيث أبدوا جميعهم بلا استثناء، استعدادهم لنشر مقالات كتاب إماراتيين جدد وتبني هؤلاء الكتاب حتى يتمكنوا من صناعة المقال، ولكن المشكلة، كما قالوا، تكمن في إحجام الكاتب الإماراتي (من الجنسين) عن الكتابة والنشر.

أقصد بالكاتب هنا هو ذلك الذي يتحدث حول قضايا فكرية عامة أو متخصصة وليس الكاتب المحلّي، فصحفنا تزخر بالزملاء الأفاضل الذين لا يتركون شاردة ولا واردة في الشأن المحلي إلا وتناولوها بالتحليل والتفصيل، ولكنني أتحدث عن الكتّاب المفكّرين الذين يتجاوزون حدود الوطن برأيهم وبفكرهم، أولئك الذين يناقشون القضايا الفكرية الملحّة، وينيرون لنا الطريق أو على الأقل يدلّونا عليه.

يقول البعض بأن المثقف يحتاج إلى بيئة حيّة ومجتمع ناضج لكي يتمكن من الاستمرار في عمله الإبداعي، وأعتقد بأنها مقولة نسبية وليست مطلقة، فلقد برز إلى العالم روائيون مبدعون من أميركا الجنوبية، كإزابيل الليندي وجورج أمادو وغابرييل ماركيز وخورخي بورخيس، وغيرهم ممن ينحدرون من مجتمعات يسودها الفقر وتغشاها الأميّة، إلا أنهم استطاعوا أن يشكّلوا ما يُعرف اليوم باسم laquo;الأدب اللاتينيraquo;.

فالمثقف الحقيقي هو الذي يخرج من بوتقته المحليّة ويبعث فكره وإبداعه في فضاء العالم الرحب، وهو الذي يتخطى الحواجز ويُكافح من أجل أن يُسمِعَ كلماته للناس في الشرق والغرب، حتى وإن كان بهم صَمَمُ.

لا شكّ بأن الإمارات تزخر بمفكرين وباحثين ونخب فكرية، ولكننا لا نكاد نجد هؤلاء في المشاركات الثقافية المحلية إلا نادراً، بينما لا يُحجمون عن المشاركة خارج الدولة، سواءً بالكتابة أو بالحضور، وكلّما تحدثت إلى أحدهم عن هذا الأمر أقرأ في عينيه رسالة ألم وأسمع في صوته نبرة حزن.

فغالبية هؤلاء النخب يعتقدون بأن المجتمع الإماراتي قد أصبح ميّالاً في الفترة الأخيرة إلى الشكليات والمظاهر الداعية إلى اقتناء كل جديد وعصري، أما الثقافة فهي آخر ما يشغل أبناء المجتمع، ولذلك تشعر النخب بأنها laquo;تنفخ في قربة مقطوعةraquo;، فتُيَمّمَ شطر المجتمعات التي يعترك فيها الحوار الفكري، لتجد فيها بيئة خصبة تبذر فيها أعمالها.

لا يشعر الكاتب الإماراتي في كثير من الأحيان بأنه ينتمي laquo;فكرياًraquo; إلى مجتمعه، وبحسب مقولات بعض الكتاب، فإن الناس، والمواطنون على وجه الخصوص، لا يتعرّفون عليهم إذا ما رأوهم في مكان عام، كمقهى أو مركز تجاري مثلاً، بينما تجد نظرات الناس تتكالب على لاعب كرة قدم إذا ما جلس في مكان عام.

هُنا، يصاب الكاتب باكتئاب فكري، فإما أن يُطلّق القلم ثلاثاً، وإما أن ينشر أعماله في بلد آخر يتوسّم فيه قراء ومتابعين يدفعونه لكتابة المزيد.

ولكننا إذا أمعنا النظر في الواقع الثقافي في بعض الدول المجاورة، نجد أن النخب الثقافية هناك قد مرّت، وربما لا زالت تمرّ بإرهاصات شبيهة بما تمر به النخب الإماراتية، أضف إلى ذلك وجود جهات في تلك الدول تُحاول فرض وصاية فكرية وضرب طوق سياسي حول المثقفين والأدباء.

ورغم ذلك فإننا نجد أولئك المثقفين منطلقون بكل ما أوتوا من معرفة، ينشرون مقالاتهم ورواياتهم وأعمالهم الأدبية بمختلف أشكالها في الداخل والخارج، حتى أصبح عدد الروائيين عندهم يقارب عدد كتّاب أعمدة الرأي، وبدأ الزخم الثقافي والمعرفي يشق طريقه في أزقة العقول الضيقة ليحلها إلى مسارات فكرية رحبة، ولولا استمرار هذه النخب الفكرية في العطاء، ولولا إصرارها على المتابعة، لبقيت مجتمعاتها رهينة الجهل والرأي الواحد.

إنها جدليّة مؤرقة، طرفاها هما المثقف الإماراتي والمتلقّي الإماراتي، فالأول محجم عن الكتابة، والثاني محجم عن المتابعة، وكلاهما محجم عن الحوار، وتبقى الساحة الإماراتية رهينة هذه العلاقة المتأزمّة والقطيعة المؤلمة، لتصبح يتيمة laquo;فكرياًraquo; وصامتة كغرفة في سرداب قديم، تنتظر من يزيح الغبار عن بابها المهترئ ويدفع بالنور لاختراقها.

إن المثقفين وأساتذة الجامعات والمفكرين والنُخَب هم صمام الأمان في المجتمع وليسوا الزناد الذي يطلق رصاصات قاتلة، وإذا لم يُدرِك المجتمع هذه الحقيقة الضامنة لاستقراره، فإن أي أزمة، فكرية كانت أو سياسية، ستُطوّح به بعيداً دون أن يَجِدَ من يتصدى لها ويسانده في تخطيها.

ولكن إن أحجمت هذه النّخب عن أداء عملها الحقيقي، فإنها بذلك تُطلِقُ الرصاص على أنفسها، لينكفئ المجتمع على ماديّته أكثر، وتبدأ الأنوار بالانحسار شيئاً فشيئاً حتى يتوه المجتمع في العتمة.

إن المثقف هو واجهة أي دولة، وهو صوتها الذي يصل صداه إلى الفضاء، وهو مدادها الذي يملأ الدنيا فكراً ومعرفة، وللتقليل من آثار هذه الأزمة الثقافية التي تعيشها الإمارات، أتمنى من المؤسسات الثقافية والإعلامية أن تُفعّل برامج وأنشطة جادّة وقريبة من أفراد المجتمع، لتلمّ فيها شمل الثقافة الإماراتية، وتجمع شتات الكتّاب، وتشجّع المجتمع على القراءة والحوار، لكي نطرد الجهل من عقولنا، فالجاهلُ خائنٌ لوطنه. القارئ فرضُ عَينٍ في المجتمع، والكاتب فرضُ كفاية، وبكليهما، تكتملُ شريعتهُ الثقافية.