الرئيس الإيرانيّ يزور البلد الذي امتنع عن التصويت سلباً أو إيجاباً على العقوبات

وسام سعادة

ينبغي أن تكون زيارة الرئيس الإيرانيّ محمود أحمدي نجاد إلى لبنان محطة حيوية لصنع التمايز بين رؤى الحركة الإستقلالية للديبلوماسية اللبنانية، وللديموقراطية اللبنانية، وللتعددية الثقافية اللبنانية، وللعروبة الحضارية اللبنانية، وبين ما يناقض هذه الرؤى.
فالديبلوماسية تعني في هذا المقام حسن تفريق المستوى الرسميّ الصرف للعلاقات اللبنانية الإيرانية من دولة إلى دولة عمّا عداه، مع الترحيب بالحيّز التي تنأى به الجمهورية الإسلامية عن الإنقسامات اللبنانية، والتأهّب دائماً لإنتقاد أي معطى تدخّلي، خطاباً كان أو ممارسة.
وفي هذا الإطار لا بدّ من التذكير بأن لبنان الرسميّ الذي يستقبل الرئيس الإيرانيّ اليوم، هو نفسه الذي استطاع الحفاظ على حياده تجاه سياسة المحاور المتخطية دائرة الصراع العربيّ الإسرائيليّ، وذلك بإمتناعه عن التصويت في مجلس الأمن سلباً أو إيجاباً في شأن العقوبات على إيران. أمّا علّة هذا الإمتناع، أي إنقسام التصويت الحكوميّ وقتها، فيبقى من هذه الناحية شأناً لبنانياً صرفاً. واليوم فإنّ لبنان الرسميّ بحدّ ذاته يستقبل محمود أحمدي نجاد ويرحّب به ضيفاً مكرّماً، وهذا يعني لبنان الرسميّ كلّه، بحصيلته الديبلوماسية الممتنعة عن التصويت سلباً أو إيجاباً في موضوع العقوبات، وبجناحيه الرافض أو المحايد تجاه هذه العقوبات.
بيدَ أن هذه المقاربة الديبلوماسية لا تتناقض، بل تتواءم، في الوعي المطلوب من الحركة الإستقلالية، مع مقاربة مدنية ديموقراطية، أي مقاربة يبرز فيها المجتمع المدنيّ اللبنانيّ الخاضع منذ أشهر للترهيب المنهجيّ، نصيراً للمجتمع المدنيّ الإيرانيّ المقهور، وللثورة الخضراء المهزومة. فلبنان يحترم حرية الشعب الإيرانيّ في إختيار ممثّليه، لكن معنى ذلك يتبدّل بين الحيّز الديبلوماسيّ الرسميّ وبين الحيّز المدنيّ الديموقراطيّ. في الحيّز الأوّل لا يسع اللبنانيين، إستقلاليين كانوا أم ممانعين، إلا أن يرحّبوا بنجاد بوصفه رئيساً للجمهوريّة الإسلامية. وفي الحيّز الثاني، المدني الديموقراطي، لا يمكن للإستقلاليين اللبنانيين إلا أن يقارنوا بين تلاعب quot;الحرس الثوريّquot; بنتائج الإنتخابات الرئاسية الإيرانية ثم قمع هذا الحرس للحركة الإحتجاجية الجماهيرية، وبين إنقلاب قوى 8 آذار في لبنان على نتائج انتخابات حزيران 2009 التشريعية.
من هذه الناحية، ليست القضية محصورة بالمقابلة بين زيارة الرئيس خاتمي المؤلفة لقلوب اللبنانيين، وزيارة الرئيس نجاد التي تأتي في سياق مختلف تماماً. إنّما القضية الأساس، هي أنّ الإستقلاليين هم الخاتميّون في حال لبنان. المعادلة يمكن تخريجها كالتالي: quot;الخاتميّون اللبنانيّونquot; يرحّبون بنجاد كرئيس لدولة، لا كممثّل لنظام. هذا في حين أنّ quot;النجاديين اللبنانيينquot; يرحبّون بنجاد كممثل لنظام لا كرئيس لدولة.
وquot;النجاديّون اللبنانيّونquot; يدرجون هذه الزيارة كمحطة في إطار مشروعهم الهيمنيّ الفئويّ على لبنان، وعلى أساس من أيديولوجيا نصف شعبوية نصف شموليّة، تبرز بين الفينة وبين الفينة نزعات فاشية لا لبس فيها. وعلى صعيد النسيج الثقافي والإجتماعيّ اللبنانيّ، يريدون لهذه الزيارة أن تستكمل عملية تحويل التشيّع اللبنانيّ من طائفة تعدّدية تواصلية إلى طائفة أحادية مغلقة، أي إلى طائفة إثنية.
أمّا الإستقلاليّون اللبنانيّون، الخاتميّون، فليتهم كانوا قادرين على إيصال وجهة نظرهم بالشكل الصحيح إلى الرئيس نجاد، ليحذّروه من مضاعفات التناقض الذي يقوم عليه المشروع الفئوي الهيمنيّ الذي يدعمه في لبنان. فمشروع quot;حزب اللهquot; أكثر فئوية من أي مشروع فئويّ سابق في لبنان، كونه يستهدف تحويل طائفة إلى إثنية، وكون معظم الخواص الإثنية التي يريد تكريسها في هذه الطائفة هي خواص دخيلة على معاشها وشعائرها. وهذا المشروع يريد الجمع بين متناقضين: عزل طائفة ضمن خواص إثنية مقحمة على أساس هندسة إجتماعية قسرية وبمنطلقات أيديولوجية شمولية، ثم السعي إلى إحلال منطق الهيمنة الشاملة انطلاقاً من هذا العزل. أقل ما يقال في هذا التناقض الذي يقوم عليه المشروع الفئوي الهيمنيّ الذي يمثّله quot;حزب الله.quot; أنّه تلاعب خطير في البصمات الوراثية للجماعات الأهلية اللبنانية.
والإستقلاليّون الخاتميّون اللبنانيّون، لهم أن يغتنموا هذه الزيارة لينافسوا نجاديي لبنان في محبّتهم للشعب الإيرانيّ، والحضارة الإيرانية ومنجزاتها الخالدة الروحية والفكرية والإبداعية، رافضين كل نزعة عنصرية معادية للفرس. طبعاً لا يمكن للإستقلاليين اللبنانيين أن ينافسوا نجاديي لبنان في محبّتهم للثورة الإسلامية الإيرانيّة، لكن هنا أيضاً ثمّة ما يقوله الإستقلاليّون: فمهما كانت نقدية مقاربتهم للمسار الذي أخذته الثورة الإيرانية، وللكيفية التي من خلالها راحت تأكل أبناءها، إلا أنّه لا يمكن بأية حال إختزال مسار هذه الثورة، أي مسار شعب بأسره، في شخص واحد، خصوصاً إذا كان هذا الشخص هو محمود أحمدي نجاد. إذا كان السيد حسن نصر الله يستقبل نجاد كـquot;خلاصةquot; للثورة الإيرانية، فعلى الإستقلاليين اللبنانيين، النقديين لهذه الثورة ككل، أن يشدّدوا في الوقت نفسه على رفضهم اختزالها في quot;منعطفها النجاديّquot;.
النجاديّون اللبنانيّون يريدونها زيارة quot;من ثورة إلى ثورةquot;، بل من quot;انقلاب حاصل إلى انقلاب قيد التحضيرquot;، وهم يرون في نجاد quot;خلاصة الثورة الإيرانيةquot;. الإستقلاليّون اللبنانيّون يريدونها زيارة quot;من دولة إلى دولةquot;، على أساس الندّية الديبلوماسية والمصالح المتبادلة والإنفتاح الثقافيّ، وفي ما عنى الثورة ينبغي أن يكون موقفهم مزدوجاً تماماً: الترحيب بنجاد كرئيس لدولة لا كممثل لثورة، وعدم قبول إختزال الثورة الإيرانية في شخص محمود أحمدي