علي جرادات
نشأت ldquo;المسألة اليهوديةrdquo; بفعل تاريخ اجتماعي أوروبي معقد ومحدد في الزمان والمكان، وليس بفعل عداء فطري مسبق عند ldquo;الأغيارrdquo;، كما ادعى الصهاينة بتوظيف بشع ل ldquo;خرافاتrdquo; تلمودية بائدة . وبالتالي، فإنها، (كأي ظاهرة اجتماعية أخرى)، ldquo;لم تعش في التاريخ رغماً عنه، بل بفضلهrdquo; .
عليه، ولأن تأسيس الكيان الصهيوني على حساب الشعب العربي الفلسطيني، لم يكن حلاً للمسألة اليهودية، بل كان استثماراً صهيونياً استعمارياً بشعاً لها، فقد كان من الطبيعي أن تجري ولادته بقوة الحراب، وأن ينتهج قادته شن الحروب وفرض الحقائق على الأرض كسياستين ثابتتين مفتوحتين، بافتراض أن من شأنهما أن تخلقا واقعاً سرعان ما يُعترف به، وفي أقله، تتم المساومة عليه في مراحل عقد التسويات . وقد عبر ايغال آلون عن ذلك في مشروع ldquo;للتسويةrdquo;، كان قد تقدم به بعد شهر على هزيمة عام ،1967 وطوره عام ،1976 بالقول: ldquo;فلو أن ldquo;إسرائيلrdquo; سمحت لجيشها عام 1949 باحتلال كامل الضفة الغربية لما كان يخطر ببال أحد الآن أن يدّعي ضد حق ldquo;إسرائيلrdquo; بالبقاء في المدينة القديمة أو الخليل أو نابلسrdquo; .
في السياق يقول أرسكين شليدر في كتابه ldquo;تهويد فلسطينrdquo;: ldquo;إن الاستيلاء على الأرض وطرد السكان ليس ناجماً عن طبع شرير عند اليهود، بل هو من مقتضيات إقامة الكيان الصهيوني الذي ما كان ليقوم إلا بأرض أكثر وعرب أقلrdquo; .
لا شك في أن قادة الكيان الصهيوني بانتهاج هاتين السياستين العدوانيتين التوسعيتين، وبدعم غربي بقيادة أمريكية، قد حققوا حتى الآن نجاحات سياسية نوعية . وقد أسهم نجاحهم المبهر في حرب ،1967 في تعزيز ثقتهم بهاتين السياستين . فبعد هذا النجاح، اتخذ قادة الكيان من الأراضي التي احتلوها مِن الدول العربية المحاذية لفلسطين رهينة للمساومة عليها مقابل الاعتراف بكيانهم ك ldquo;دولة للشعب اليهوديrdquo;، ldquo;تعيش على أرضها وتحت سيادتها مجموعات سكانية غير يهوديةrdquo;، هم الفلسطينيون الذين لم تستطع سياسة التطهير العرقي إجلاءهم عن أرضهم، حيث ظلوا يقاومون صامدين فيها رغم نكبة 1948 وهزيمة 1967 .
بلى، بانتهاج هاتين السياسيتين الابتلاعيتين للأرض والاقتلاعيتين للسكان، كرس الصهاينة كيانهم على الأرض، لكن من دون حساب أن القوة الموضوعية الديموغرافية للشعب العربي الفلسطيني، ستبقى سؤالهم الحارق المفتوح، بحسبان أن أية تسويات سياسية مفروضة، لن تدوم ما دامت ترفض الاعتراف بالحقوق الوطنية والتاريخية المغتصبة للشعب العربي الفلسطيني . وأكثر من ذلك، فإن تمادي الصهاينة، ورفضهم التعاطي حتى مع الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، كما أقرتها قرارات الشرعية الدولية، بل والمبالغة في التوسع والعدوان ضد المحيطين القومي والإقليمي، وعدم تقديرهم لما يخلقه ذلك من استفزاز لكتل ديموغرافية عربية وإقليمية ضخمة، ليس بمقدور طاقة كيانهم الديموغرافية المحدودة ارضاخها إلى ما لا نهاية، قد وضع كيانهم، رغم ما حققه من نجاحات، في أزمة مفتوحة .
عليه، فإن الصلف اللامتناهي لقادة الكيان الصهيوني، لا يقود إلى استمرار العبث بمصير الفلسطينيين وباقي شعوب المنطقة فحسب، بل أيضاً بمصير اليهود أنفسهم، الذين استثمر الصهاينة مسألتهم، بعد أن وضعوا قرابة نصف تعدادهم في حالة حرب دائمة ومفتوحة مع كتل بشرية ضخمة وهائلة . إن حال الصهاينة في ذلك، هو تماماً كحال نبلاء روما الذين كانوا يتسلون بمشاهدة لعبة استثارة أسد مِن قِبَلِ عبدٍ يصارعه، فيكون مصير العبد ldquo;يا مقتول يا مقتولrdquo; .
في إطار إحساس القادة الحاليين للكيان الصهيوني بأزمة الفرضيات الأساسية لمشروعهم، يأتي مطلبهم الاعتراف بكيانهم ك ldquo;دولة للشعب اليهوديrdquo;، فضلاً عن مطلب ldquo;التبادل الجغرافي والسكانيrdquo;، رغم كل ما ينطوي عليه هذين المطلبين من غطرسة، ما كانت لتكون لولا تبنيهما من قوى دولية باغية بقيادة أمريكا، التي قرر النظام الرسمي العربي، وبضمنه قيادة منظمة التحرير، منذ مؤتمر مدريد ،1991 التعلق بأوهام الرهان عليها لإحراز تسوية للصراع، تلبي الحد الأدنى للحقوق العربية والفلسطينية، على الأقل كما كفلتها قرارات الشرعية الدولية التي جرى القفز عنها، حين قبِل العرب والفلسطينيون لعبة التفاوض عليها، بدل التمسك بها، والإصرار على إجبار قادة الكيان الصهيوني على تنفيذها، ما سمح لقادة هذا الكيان بالتمادي أكثر، عبر مطالبتهم باستكمال عملية التطبيع العربي معهم قبل تنفيذهم لقرارات الشرعية الدولية، ذلك برغم أن مطلب التطبيع (علاقة غير عدائية) أولاً، لا يقفز عن الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني فقط، بل وينتهك أيضاً اشتراطات قرارات الشرعية الدولية للتطبيع بين العرب ودولة ldquo;إسرائيلrdquo;، التطبيع الذي يلخصه الكاتب عبد الفتاح القلقيلي وفقاً للقانون الدولي على النحو التالي:
أ- إذا انسحبت ldquo;إسرائيلrdquo; من أراضي غزة والضفة الغربية ما عدا القدس وبعض المستوطنات ومعسكرات الجيش، تبقى ldquo;إسرائيلrdquo; معتدية ومحتلة (حسب مقاييس اتفاق أوسلو وكافة القوانين والأعراف والاتفاقيات الدولية) .
ب- إذا انسحبت ldquo;إسرائيلrdquo; من كل أراضي غزة والضفة الغربية بما فيها القدس ومناطق المستوطنات ومعسكرات الجيش، وعادت إلى حدود الرابع من يونيو/ حزيران عام ،1967 فإن ldquo;إسرائيلrdquo; تبقى معتدية ومحتلة ل 52،4% من أراضي الدولة الفلسطينية وذلك حسب مقاييس الأمم المتحدة وخاصة القرار 181 عام 1947 الخاص بالتقسيم .
ج- إذا انسحبت ldquo;إسرائيلrdquo; من كل أراضي الدولة الفلسطينية (حسب قرار 181)، ولم تسمح بعودة اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم، تصبح ldquo;إسرائيلrdquo; غير محتلة، ولكنها تبقى معتدية، وذلك حسب مقاييس الأمم المتحدة وخاصة قرار 194 الخاص بعودة اللاجئين وتعويضهم .
د- إذا انسحبت ldquo;إسرائيلrdquo; من كل أراضي الدولة الفلسطينية (حسب قرار 181)، وسمحت بعودة اللاجئين (حسب قرار 194)، تكون ldquo;إسرائيلrdquo; غير معتدية وغير محتلة (وذلك بمقاييس القرارات والاتفاقات الدولية) .
عليه، إذا كان النظام الرسمي العربي، وبضمنه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ليس في وارد استمرار إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني وفقاً لمقاييس ومقتضيات الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب العربي الفلسطيني، الأمر الذي لن يكون إلا بمسح مقولة ldquo;إن حرب 1973 هي آخر الحروبrdquo; من قاموس الصراع، فعلى الأقل، لماذا لا يجري مسح عبثية التفاوض على قرارات الشرعية الدولية، ومسح مخاطر تغييبها على مدار عقدين من التفاوض العقيم، وذلك عبرالعودة إلى المطالبة بتنفيذها؟ وهذا ما لا يمكن أن يكون إلا بالخروج على عصا الطاعة لمشروع التسوية الأمريكي، الأمر الذي عجزت لجنة المتابعة العربية، ومن خلفها قمة سرت، وقبلها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، عن مجرد التفكير فيه . لكن مهلة الشهر التي منحها العرب في سرت لأمريكا، لن تأتي بما لم تأتِ به مدة قرابة عقدين، حتى وإن مدد نتنياهو مدة شهرين أو ثلاثة لمسرحية ldquo;التجميد الجزئي والمؤقت للأنشطة الاستيطانية في الضفةrdquo;، مقابل ضمانات أمريكية سخية للكيان الصهيوني، هي ضمانات على حساب، ومن رصيد، الحقوق الفلسطينية، ما يعني بقاء سؤال: إلى متى نمهل أمريكا؟
التعليقات