جابر حبيب جابر

اعتدنا على أن نشبه الوضع السياسي العراقي بنظيره اللبناني، لا سيما حين الإشارة إلى اختراق القوى الخارجية لهذا الوضع وتأثيراتها في صياغة معادلاته، لكن أحداث ما بعد الانتخابات العراقية تجعلنا نقر بأن العراقيين قد تجاوزوا اللبنانيين إلى حد كبير، ليس فقط في قبولهم التدخلات الخارجية، بل وفي استدعائهم لتلك التدخلات. اعتدنا أيضا على أن نناقش تدخل الخارج، لكن اليوم صار لزاما علينا أن نتحدث عن فيضان الداخل على الخارج والإصرار على زجه، ليس فقط في اتخاذ القرارات الاستراتيجية، بل وأيضا في التفاصيل.

بعض القوى تجادل بأن انفتاحها على الدول الإقليمية ضروري لبناء جسور ثقة، بل إن بعض السياسيين يقولون إننا نذهب إلى الخارج لنخبره بأن تشكيل الحكومة العراقية هي شأن داخلي! لكن الحقيقة هي أن الخارج يستمع إلى أصوات عراقية مختلفة، عادة ما تتصل به لتشكو من القوى الداخلية المنافسة، والخارج يبني تفضيلاته على ما يسمع. وبالتالي، فإن تلك القوى تسعى إلى استمالته لاستخدام ثقله في صراعاتها مع المنافسين الداخليين. ما يحدث هو إصرار على جر الخارج إلى الداخل، بما يعنيه من تدويل الصراع السياسي وجعله مرتبطا تماما بصراع القوى الخارجية، ما يولد مزيدا من الاستعصاءات تضاف إلى تلك المتعلقة بالصراعات الشخصية والحزبية والطائفية والقومية الداخلية.

إننا اليوم أمام نمط غير معتاد من السلوك، ليس فقط من حيث الإصرار على استدعاء الخارج، بل وأيضا من حيث عدم التردد في جعله استدعاء معلنا ومن جعل إعلانه وسيلة للضغط على الآخر، أي أن الطبقة السياسية العراقية تجاوزت مثيلاتها الإقليمية وتجاوزت نفسها عندما قررت الخروج بارتباطاتها الخارجية إلى العلن بعد زمن من ممارستها في الظل. يحدث ذلك بعد أن كسرت المزيد من laquo;المحرمات اللفظيةraquo; خلال المرحلة السابقة، حينما صار الحديث عن laquo;المقبولية الإقليميةraquo; صريحا، بل ويستخدم وسيلة لتقوية طرف على آخر، ثم عندما صارت تلك المقبولية وسيلة لتعويض الوزن السياسي وفقدان laquo;المقبولية الشعبيةraquo;، أي أن السياسيين العراقيين حسموا أمرهم بإعطاء الأولوية لقرارات الخارج على إفرازات الداخل.

لا شك أن هناك من يرد بأن الوضع العراقي كان مدولا دائما منذ التسعينات؛ فقرار بقاء نظام صدام في السلطة بعد انتفاضة 1991 كان قرارا خارجيا، وقرار إبقاء العراق تحت العقوبات الصارمة التي أنهكت شعبه ودمرت طبقته الوسطى وأسست للكثير من إشكاليات المرحلة الراهنة، كان قرارا خارجيا أيضا، ثم إن قرار إسقاط نظام صدام كان قرارا خارجيا، وحكومات ما بعد الاحتلال تأثرت أيضا بالضغوط الخارجية. لكن ما يحصل اليوم يبدو متميزا عن كل ما سبقه؛ لأنه يخلق قواعد جديدة للعبة السياسية تقوم على فرضية أن الداخل عليه أن يتكيف مع إرادة الخارج وليس العكس، بما يعنيه ذلك من النزول بالقرار الشعبي الذي يتم التعبير عنه عبر الانتخابات إلى أدنى مستويات تأثيره والصعود بالقرار الإقليمي الذي يتم التعبير عنه عبر الصفقات التي تبرمها أطراف من النخبة مع القوى الخارجية إلى أعلى مستويات تأثيره. وتلك خطوة أخرى باتجاه إجهاض ما تبقى من المشروعية الديمقراطية لصالح الرضوخ لقواعد الإقليم.

الشيء الآخر هو أن المفاوضات الراهنة تجري في ظل مستوى عال من عدم الثقة، ما يعني أن آليات العملية السياسية، بدلا من أن تسهم في بناء الثقة، نمت الشك بين الأطراف المختلفة. ذلك أن الصراع يجري حول الاستئثار بالحصة الكبرى للتأسيس لوضع يهمش الآخرين، وأن البديل الذي يطرحه البعض لذلك هو تقسيم السلطة بين مختلف الفرقاء بما يعنيه من إفقاد الحكومة أية فاعلية حقيقية للتعامل مع القضايا الرئيسية وتحويلها إلى منتدى لتوزيع الترضيات بين أطراف النخبة، بما يعزز انقطاع الأخيرة وغربتها عن المجتمع. يجري ذلك في ظل دعوات إلى أن تكون هناك أطراف دولية مشرفة على التفاوض بين الكتل السياسية، وأن تتولى تلك الأطراف ضمان تطبيق ما يتم الاتفاق عليه، بما يعنيه ذلك من إدامة التدويل كأحد أعراف النظام السياسي الجديد.

التدخل الدولي، كما أثبتت التجربة في أكثر من مكان، يؤدي إلى صفقات سياسية وقتية، وإلى توافقات معقدة قد تسهم في إيجاد مخرج ظرفي ومؤقت، ولكنه يفترض أن تكون هناك مرجعية دولية دائمة وشرعنة للجوء إليها كلما شعر طرف ما بالغبن، فضلا عن أنه لن يقدم أي حل دائم؛ لأنه يرهن هشاشة الظرف المحلي بصراع القوى الدولية التي عند عجزها عن الانتصار على بعضها، تخلق هدنات مؤقتة تنعكس علينا بحكومة ذات مراكز قرار متعددة وولاءات متناقضة وسياسات متعارضة.

إن حصول ذلك في أية تشكيلة حكومية جديدة يبدو حتميا، لكن الأخطر هو أن يتحول إلى تقليد راسخ، بل أكثر رسوخا من الديمقراطية نفسها؛ لأن الخارج وإن اختلف على كل شيء، فإنه سيتفق على أن ديمقراطية حقيقية تعني استبدال إرادته بإرادة الناخب وخسران ورقة التأثير التي يراهن عليها.