عبدالله بن بجاد العتيبي


الاتهامات التي كالها رئيس الوزراء العراقي المنتهية مدته لمعارضيه جديرة بالقراءة والاهتمام، فهي اتهاماتٌ بالارتهان لأجندة خارجية لا وطنية - حسب قوله- وهو يقصد بهذا بعض الأحزاب الرئيسية التي تنازعه المشروعية السياسية لبناء حكومة عراقية جديدةٍ، وهي أولاً الائتلاف الوطني العراقي بقيادة عمّار الحكيم والتيّار الصدري ثانياً، وثالثاً القائمة العراقية بقيادة إياد علاّوي، وهي القائمة المنتصرة في الانتخابات بفارقٍ ضئيل.

ولئن كان معروفاً أن الجهات الخارجية التي قصدها المالكي في اتهامه للحكيم والصدر تتمثل في إيران، فليس معروفاً على وجه الدقة ماذا كان يقصد بالجهات الخارجية فيما يتعلق بالقائمة العراقية ورئيسها إياد علاّوي، وإنْ كان من الممكن التخمين بأنّه يقصد السعودية وبعض الدول العربية وربما الغربية.

بعد ثلاثة أشهر ونصف تقريباً على الانتخابات العراقية وعجز التيارات السياسية هناك عن حسم خياراتها، مع استحضار الطمع المسيطر على هذه التيارات في الحصول على مراكز قوية في الحكومة العراقية الجديدة، كل هذا دليل واضح على التخبّط الذي تعيشه العراق كدولةٍ وأحزابٍ ورموز.

ما يزيد المشهد تعقيداً هو أنّ العراق بلد كبير، والصراع عليه شديد، تبعاً للصراع الأكبر الدائر في المنطقة، فإيران تعتبره نفوذاً خالصاً لها، وأميركا تريد انتزاعه من براثنها، والعرب لا يرضون أن يتحوّل هذا البلد العربي الكبير إلى مجرد خاتمٍ صغير في خنصر إيران، وتركيا تطلّ على المشهد من علٍ لتفرض شروطها وتضمن مصالحها.

إن رؤية المشهد الشامل في المنطقة تمنحنا قدرةً أكبر على قراءة ما يجري في العراق، فالملفّ النووي الإيراني يشهد تصعيداً غير مسبوقٍ من قبل العالم ومجلس الأمن، والعقوبات التي فرضت على إيران قاسية وصارمة، وتعنّت إيران جعلها تخسر كثيراً من حلفائها الأقوياء كالصين وروسيا، وتركيا تدخل المنطقة بقوةٍ غير مسبوقةٍ في العصر الحديث، وإسرائيل تقف بالمرصاد لأي تطويرٍ نووي إيراني، فموقد المنطقة ساخن والعراق في وسطه.

وبالقراءة التفصيلية، فإن إسرائيل التي ضربت مفاعلات العراق سابقاً لم تعد ترى فيه تهديداً لها، بل ترى التهديد صارخاً في إيران المجاورة للعراق، وهي تتحيّن الفرصة لضرب المفاعلات الإيرانية، ودول العالم التي تعاقب إيران تتحين هي الأخرى الفرصة للقضاء على التهديد الإيراني للعالم، فصواريخها البالستية تستطيع ضرب بكّين وأوروبا، وهذا تهديد خطير بحد ذاته، فكيف إذا استطاعت إيران تحميلها رؤوساً نوويةً!

بعيداً عن دول العالم، وتركيزاً على المنطقة، فإننا نجد لدينا ثلاثة لاعبين فيها: العرب وإيران وتركيا، ولكلٍ سياساته وأهدافه ومصالحه، والأهمّ، قوّته وتأثيره ومكانته في المنطقة والعالم.

هؤلاء اللاعبون الثلاثة في المنطقة، لدى كلٍ منهم قناعاته التي تعبر عنها سياساته التي يقودها تاريخه ومكانته وطموحاته، ولا تبين عنها مقدّراته الذاتية إلا بحجم ما توضح عنها علاقاته، وتحالفاته الدولية وأهدافه الإقليمية.

بعيداً عن العنتريات القديمة والجديدة، كان العرب هم من دفعوا ثمن مواقفهم القوية والصريحة خلال نصف القرن الماضي بين غالٍ منهم وعاقلٍ تجاه القضايا الرئيسية، والمواقف محفوظةٌ والتاريخ شاهد والنتائج خير حكمٍ، وانتهى بهم رصيد التضحيات والتجارب والمواقف والسياسات القوية إلى الوصول إلى موقفهم الأخير والمعروف من قضايا الشرق الأوسط، وعلى رأسها قضية فلسطين، التي دفعوا لأجلها الكثير في حين ظل اللاعبون الآخرون يفضّلونها شعاراً بلا تكلفةٍ يضمن لهم الولاء الداخلي ويمنحهم نفوذاً خارجياً، فهي بالنسبة لهم مجرّد أداةٍ لتحصيل مكاسب داخلية وخارجية دون أن يدفعوا من أجلها أي فاتورةٍ، وبكلمة، فهي تمثل لهم مكسباً خالصاً دون أي خسائر.

أما إيران التي لم تلق يوماً حجراً على إسرائيل، فضلًا عن أن ترمي صخرةً على العالم، فهي تجد أن ممارسة أسلوب المزايدة الشعاراتية على مستوى المنطقة يخدم أهدافها الوطنية، وترى أن هذا هو أنجع الأساليب، وهو أسلوب لم تدفع جرّاءه أي ضريبةٍ في حين تكسب من خلاله مكاسب شتّى نعرفها في سوريا وفي لبنان وفي فلسطين وفي اليمن وفي العراق أيضاً حسبما هو معروف، وحسب ما تؤيده تصريحات المالكي، وما تؤكده المعلومات والتحليلات المتخصصة.

يبقى السؤال الأهم في هذا السياق عن تركيا، ما أهدافها في المنطقة حالياً؟، مع استحضار تاريخها القريب وواقعها المعاصر، والظروف التي تمرّ بها داخلياً وخارجياً. نحن نعرف ما يريد العرب، ونعرف ما تريد إيران، ولكنّنا يجب أن نتساءل ماذا تريد تركيا؟

إن تركيا المعاصرة التي يمكن تمسيتها quot;بالإسلاميةquot; كانت مع أربخان تؤكد العلاقات مع إسرائيل وتقر معها كل أنواع التعاون حتى العسكرية منها، ولكنّها مع أردوغان بدأت تتخذ سياساتٍ وشعاراتٍ معاديةٍ لإسرائيل رغم حاجتها للتعاون العسكري معها في مواجهة التمرّد الكردي، ثم إنها في الواقع لا تتوجس من إسرائيل خيفةً بقدر ما تسعى لأهدافٍ أخرى، وهنا نتساءل: لماذا اختلفت تركيا التي يمكن تمسيتها بـquot;الإسلاميةquot; وأخذت هذه المناورة السياسية الكبيرة تجاه إسرائيل من خلال قافلة الحرية وما تلاها من مواقف وتصريحات، بعكس تاريخها السابق؟

حين نعود للمشهد العام في المنطقة نجد أن ثمة تحرّكاً تركياً واسع النطاق، وثمة علاقة تثير التساؤل مع إيران وآخرها التواصل مع إيران القريبة بالتعاون مع البرازيل البعيدة، بشأن تبادل الوقود النووي، وهي مع هذا تسعى للتأثير في العراق، وتلهث في سبيل التواصل مع القضية الفلسطينية وتحديداً دعم موقف حماس بشكل دوليٍ، تحت غطاء المسألة الإنسانية، ومن خلال غطاء سفينة الحرية.

إن ما فعلته إسرائيل تجاه quot;سفينة الحريةquot; جريمة بكل المقاييس، وليس في هذا جديد ولا غريب، فقد تعوّدت إسرائيل على هكذا ممارسات، وهي واثقة من الدعم الأميركي في مجلس الأمن، والأمم المتحدة.

إن إسرائيل مهووسة بأمنها، وهذا أمر معروف، ولكنها لا تسعى لأكثر من هذا، ويظل السؤال المهم ماهي أهداف الدول الإقليمية الكبرى كإيران وتركيا، ماذا يريدون؟ وهل ما يدور بينهما هو تنسيق أم صراع؟ من النووي إلى إسرائيل إلى غزة؟

هل يأست تركيا quot;الإسلاميةquot; من الاتحاد الأوروبي ورفضه الدائم لانضمامها له كما يرى البعض؟ مع استحضار أن هذا الاتحاد اليوم وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية قد أخذت دوله الأساسية تسعى بجدٍ لمحاولة التنصل من تبعاته قدر المستطاع؟ ويكفي قراءة تصريحات المستشارة الألمانية ميركل تجاه الوضع في اليونان، التي وصل بها الدمار الاقتصادي إلى أن تعرض جزرها للبيع، وكذلك بعض التصريحات البريطانية التي تنضح بما يشبه الشماتة تجاه الاتحاد الأوروبي.

ضمن هذا المشهد العالمي والإقليمي ستظلّ العراق تعاني أكثر وأكثر، ما لم يتوصّل قادتها إلى نتيجةٍ واحدةٍ متفقٍ عليها تجعل مصلحة العراق فوق كل المصالح الضيّقة داخلياً والولاءات الواسعة خارجياً، وما لم تصل لطريقة ما تفعل بها هذا، فإنها ستبقى كالريشة في مهب الريح يديرها الآخرون، وينفخون في كيرها حتى تشتعل وتضيع.