شوقي بزيع

لم يكف لبنان منذ سنوات طويلة عن أن يكون بلد المفارقات بامتياز، كأن قدر هذا البلد الصغير أن يتحول منذ نشوئه إلى ساحة مفتوحة للمواجهة بين المتعة والخطر، بين الحرية والكابوس كما بين الحياة والموت، ولأنه بلد الثنائيات المتعارضة فقد شاءت الصدف أن يتواجه فوق عاصمته الفريدة مرة أخرى لبنانان متغايران في الدلالة والهوية والمعنى، أحدهما يذكِّر بالزمن الجميل الذي تعود تجلياته ومراياه إلى حقبة النصف الأول من القرن العشرين، فيما يذهب الآخر إلى استكمال حقبة الحرب الأهلية الطاحنة وما خلقته من انشقاقات طائفية ومذهبية ضارية .

وإذا كان الوجه الثاني يتمثل هذه الأيام في الصراع حول المحكمة الدولية وما سمي بشهود الزور، وفي الاصطفاف الأهلي المحكم الذي يأخذ أبعاداً مذهبية بغيضة تهيئ لو استفحلت لجولات جديدة من العنف، فإن الوجه الأول تمثل من خلال حديثين فنيين بالغي الدلالة والأهمية تقاسم أدوار البطولة فيهما كل من فيروز وسعيد عقل، فيما بدا ظهور وديع الصافي بمثابة الضلع الأخير من مثلث الحنين اللبناني إلى الزمن الضائع .

ليس الحفل الغنائي الحاشد الذي أحيته ldquo;شاعرة الصوتrdquo; في قاعة البيال الكبرى لليلتين متتاليتين هو الأول من نوعه بالنسبة لفيزوز التي اعتادت، ولو في فترات متباعدة، أن تطل بين حين وآخر على عشاق صوتها من اللبنانيين المقيمين والوافدين، إضافة إلى القادمين العرب، إلا أن المرأة التي سكنت مخيلات الناس ووجدانهم العميق منذ خمسينيات القرن الماضي لم تعد الصبية اليافعة التي كانت قبل عقود، لذلك فإن قدراً غير يسير من الخوف على قدراتها الصوتية كان ينتاب أولئك الذين تقاطروا من كل صوب لسماعها بعد طول انتظار .

كما أن اللغط الدائر حول منعها من الغناء إثر خلاف على الحقوق المادية بينها وبين ورثة منصور الرحباني ترك أبلغ الأثر في نفوس محبيها وعشاق صوتها الكثر، وبدا لهم أن ذلك الوطن الأثيري الذي ارتسم في ترجيعات صوتها بات الآن عرضة للترنح والاهتزاز، ومع ذلك فإن مجرد ظهور فيروز بصوتها وصورتها على الملأ استطاع أن يبدد الكثير من الهواجس ويعيد إلى الأذهان ظلال ذلك الحلم الرومانسي المتصل بصورة لبنان القديم وأطيافه الوردية .

أما الحدث الثاني المتعلق بتكريم سعيد عقل في الجامعة الأمريكية للعلوم والتكنولوجيا، فلم يكن أقل من الأول تعبيراً عن الملامح الزاهية وشبه الغاربة للوطن المعذب، فعلى مرمى أيام أربعة فقط من أمسيتي فيروز تقاطر مئات الكتّاب والشعراء والمثقفين لرؤية الشاعر الفريد في تجربته وحضوره وهو يزيح بنفسه الستار عن تمثاله التكريمي الذي ارتفع في باحة الجامعة جنباً إلى جنب مع تمثالي جبران خليل جبران ومايكل دبغي .

صحيح أن شاعر ldquo;رندليrdquo; وrdquo;قدموسrdquo; لم يستطع مبارحة الكرسي المتحرك المخصص له إلا لحظة المواجهة مع تمثاله البرونزي، لكن الزمن لم يستطع النيل من وسامته اللافتة وطلته البهية وأناقته الزاهية، بل بدا وهو على مشارف الأعوام المئة صاحب ldquo;كاريزماrdquo; استثنائية تصعب مجاراتها .

كانت الأعين كلها مسمرة في اتجاه الرمز الأخير من رموز القصيدة العربية الكلاسيكية الذي عرف كيف ينسج غرزة غرزة ثوب أسطورته التي لا تبلى، والذي لا يقل نثره فرادة عن شعره والذي يتقن إلقاء شعره بنبرة صوت مؤثرة تجعله شبيهاً بإله وثني يقرأ تعازيه ورقائمه من فوق جبل الأولمب في اليونان القديمة .

صحيح أن الشاعر لم يلق تلك الليلة قصائده بنفسه، لكن إلقاء صديقه وتلميذه فؤاد الترك كان يحمل في رنته وسحره الكثير من موهبة الشاعر في النبرة والإلقاء، وبخاصة حين ردد بيتي سعيد عقل الشهيرين:

ldquo;ومن الموطن الصغير نرود الأرض نذري في كل شطر قرانا/ نتحدى الدنيا شعوباً وأمصاراً ونبني أنَّى نشأ لبناناrdquo;

لم يكن ينقص بهاء تلك الليلة ورمزيتها سوى الإطلالة المفاجئة لوديع الصافي وهو ينشد من شعر سعيد عقل أغنية بعنوان ldquo;رب رد الأهوال عن لبنانrdquo; .

ورغم اقتراب الصافي من التسعين فقد بدا صوته هو الآخر صامداً في وجه الزمن وقادراً على الاحتفاظ بجرسه ورنينه وتوهجه إلى أبعد الحدود .

لكن السؤال الذي ظل يقض مضاجع الجميع بعد انفضاض الحفل، كما بعد ليلتي فيروز الرائعتين، إذا كان ما حدث هو اللحظة التي تسبق إسدال الستار على الحلم اللبناني الغارب، أم أن هذا الوطن التراجيدي قادر بعد على الخروج من رماده وتجديد عقده مع الحياة بأشكال أخرى؟