حميد الكفائي


دخل العراق سجل غينيس للأرقام القياسية قبل أيام لأنه أمضى أطول فترة في التاريخ لتشكيل حكومة بعد إجراء الانتخابات، ولا أحسب أنها المرة الأولى التي دخل العراق فيها التاريخ، فالمتتبع سيجد المزيد من الأحداث والمزايا الفريدة في العراق التي يستحق عليها حيازة الرقم القياسي.

وهي بالتأكيد لن تكون الأخيرة، فالأيام والسِّنون المقبلة حبلى بالأحداث النوعية التي قد تجعل العراق في المقدمة. وقبل هذا الرقم القياسي الجديد، الذي حققه العراق بجدارة، فإنه كان يستحق أن يدخل سجل غينيس كونه البلد الذي حكمه أسوأ حاكم في التاريخ وهو صدام حسين، وقد يكون هذا قياسياً لو أن إدارة سجل غينيس أعدت دراسة للتحقق من الأمر. وكي تتوازن الصورة، لا بد من الإشارة إلى أن العراق له حصته الكبيرة في سجل الأوائل في أمور إيجابية كثيرة، من اكتشاف الكتابة قبل خمسة آلاف عام في الوركاء، أول مدينة عرفتها البشرية، إلى سن أول قانون، وهو مسلة حمورابي، لكننا الآن بصدد الحاضر وليس الماضي السحيق الذي لم يتعلم العراقيون منه كما تعلم الآخرون، بل ظل كثيرون منهم أسرى له.

لا شك في أن العملية السياسية قد laquo;تقدمتraquo; بعض الشيء خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، لكنه تقدم لم يخرجها من دائرة المراوحة في مكانها.

فمن تغيير الصدريين موقفهم حول مرشحهم لرئاسة الوزراء، للمرة الرابعة خلال أربعة أشهر، إذ اختاروا الجعفري في بادئ الأمر، ثم رشحوا محمد علاوي لكنه رفض الترشيح فانتقلوا إلى عادل عبد المهدي لكنهم لم يمهلوه طويلاً بل انتقلوا سريعاً إلى المالكي الذي طالما قالوا عنه إنه laquo;خط أحمرraquo;، إلى تغيير المالكي موقفه (المعلن) من laquo;استشارةraquo; الدول الإقليمية في عملية تشكيل الحكومة المستعصية منذ ما يقارب الثمانية أشهر، إلى تغيير القائمة العراقية موقفها وطرحها احتمال ترشيح شخص من خارجها لرئاسة الوزراء.

ومن المتغيرات الأخرى تشظي laquo;التحالف الوطنيraquo; وانقسامه على مسألة ترشيح السيد المالكي لرئاسة الوزراء، فمنهم من أيّد ترشيح المالكي، بينما سار القسم الآخر في الاتجاه المعاكس وعبر إلى الضفة الأخرى من المعادلة السياسية. لكن الغريب في هذا الأمر أن كل هذه الأطراف المتناحرة لا تزال تصر على أنها جزء من هذا laquo;التحالفraquo;! وهذا حالة جديدة على إدارة سجل غينيس أن تنظر في إدراجها ضمن الأرقام القياسية أيضاً لأنها لم تحصل في البلدان الأخرى، إذ عادة ما تعلن الأحزاب مغادرتها أيَّ تحالف قبل أن تسير في اتجاهات معاكسة لحلفائها.

وفي الوقت نفسه، فإن كتلتي laquo;وحدة العراقraquo; ذات المقاعد الأربعة و laquo;التوافقraquo; ذات المقاعد الستة، قد شكلتا كتلة جديدة تحت مسمى laquo;تيار الوسطraquo;. لكن هذا التيار لا يزال منقسماً على رغم تحالفه رسمياً، ففي الوقت الذي يقترب التوافق من دولة القانون، فإن وحدة العراق تقترب من العراقية.

لكن الموقف الأغرب حتى الآن، هو أن القائمة العراقية الفائزة في الانتخابات والتي تعترض عليها إيران، بحسب قول رئيس القائمة الدكتور إياد علاوي، قد رشحت، إن صحت هذه الأنباء، شخصاً، هو السيد عادل عبد المهدي، من حزب يعتبر تاريخياً الأقرب إلى إيران بين الأحزاب السياسية العراقية الحالية، ألا وهو المجلس الأعلى الإسلامي العراقي.

وعلى رغم أن موقف القائمة العراقية هذا ممكن تفهمه، كونه سيقود إلى إبعاد خصومها عن تشكيل الحكومة، إلا أنه سيقود أيضاً إلى تخلي القائمة الفائزة عن استحقاقها الانتخابي في تولي الموقع التنفيذي الأول في الدولة لمرشح أحد أصغر الأحزاب في المشهد السياسي العراقي.

ولا شك في أن السيد عادل عبد المهدي، إن تولى رئاسة الوزراء فعلاً، فسيحكم نيابة عن القائمة العراقية والقوى الأخرى التي أوصلته إلى السلطة وبالتنسيق معها، وليس الانفراد بها كما فعل السيد المالكي خلال السنوات الخمس الماضية والذي يتخوف خصومه من أنه سيواصل النهج نفسه إن تولى السلطة مرة أخرى.

وعلى رغم حصوله على تأييد خصومه الأشداء في التيار الصدري، ذي التسعة وثلاثين مقعداً، فإن السيد المالكي هو الآن أبعد من أي وقت مضى عن تشكيل الحكومة. فقد أعلنت القائمة العراقية بوضوح خلال الأسبوعين الماضيين، عبر بيانات وتصريحات عدة لقيادييها، بأنها لن تشارك في حكومة يترأسها المالكي، بينما أصبح موقف المجلس الأعلى أكثر تشدداً في معارضته للتجديد للسيد المالكي، إذ إنه لم يعد مستعداً للتحالف مع قائمة المالكي مطلقاً، لكنه على استعداد كامل للتحالف مع خصومه في القائمة العراقية. أما الطرف الثالث في laquo;الائتلاف الوطنيraquo; وهو حزب الفضيلة، الذي لم يكن يعارض تولي المالكي رئاسة الحكومة، فقد انضم الآن إلى التحالف غير المعلن للمجلس الأعلى مع العراقية المناوئ لاستمرار المالكي، الذي أصبح العقدة الكأداء في طريق تشكيل الحكومة.

وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة والحراك السياسي النشيط، الذي امتد إلى الدول المجاورة لكنه لم يسفر حتى الآن عن نتيجة حاسمة لهذا الطرف أو ذاك، فإن القائمة العراقية بقيت متماسكة على رغم تنبؤ البعض بتتفككها وتحالف جزء منها مع دولة القانون، ومحاولات البعض الآخر laquo;الحثيثةraquo; استمالة بعض أطرافها. لا شك في أن القائمة العراقية مكونة من كتل كثيرة بينها اختلافات سياسية، لكن ما يجمعها أقوى بكثير مما يفرقها، وكل مكوناتها تدرك أن تخليها عن بعضها بعضاً سيكون بمثابة انتحار سياسي.

التدخل الإقليمي والدولي في الشأن العراقي، الذي يتحدث عنه كثيرون، من سياسيين ومراقبين، لم يفلح حتى الآن في حل المشكلة العراقية، وإيران التي يقولون إنها تتدخل بقوة في العراق، لم تتمكن من ثني أقرب الأحزاب إليها عن التحالف مع من تراهم خصوماً لها.

الولايات المتحدة، التي لا تزال تحتفظ بخمسين ألف جندي على الأرض العراقية وقواعد عسكرية منتشرة في طول البلاد وعرضها، لم تتمكن من إقناع أي من الأطراف السياسية بتغيير موقفه، على رغم أنها سعت بقوة لتقريب الأطــراف المتنافسة من بعضها بعضاً. وعلى رغم كل السلبــيات التي رافقــت العملية السياسية حتى الآن، إلا أن فشل laquo;الخارجraquo; في حل المشكلة العراقية لا بد أن يعتبر laquo;الحلقة الفضية التي تطوق السحابة السوداءraquo; مع الاعتراف بأنه حتى هــذا الـفشل ليـس في مصلحة العراق.