محمد عاكف جمال


على مدى أكثر من سبعة شهور انقضت منذ الانتخابات النيابية في العراق مطلع مارس المنصرم كشف الواقع العراقي عن مشهد خطير للغاية أهمل الإشارة إليه معظم من أسهم في إلقاء الضوء على هذا المشهد وأسهم في تحليل تفاصيله. وهو أن هذا الواقع يفتقر إلى الحصانة ضد حدوث الأزمات الخطيرة من جهة، ويتسم بالعجز في مواجهتها عند حدوثها من جهة أخرى.

وهذا بحد ذاته أمر على قدر كبير من الخطورة فهو يتعلق بهشاشة الأمن القومي للدولة العراقية الجديدة. فالأزمة حين تحدث وتمسك بتلابيب الوطن، وهو ما نشهده فعلاً، ولا تجد حلاً أو حلولاً سريعة تتركه عاجزاً وتشل قدراته على مختلف المستويات وتكشفه على التدخلات الخارجية وتضع سيادته الوطنية في أيدي غير أيدي أبنائه. كما كشف هذا الواقع عن مدى بُعد النخب السياسية التي وصلت للحكم عن الواقع البائس للمواطن العراقي داخل العراق وخارجه.

فالدواوين التي تجري فيها هذه النخب حواراتها التي أصبحت مملة جداً وغير مجدية البتة معزولة عن الشعب بتحصينات المنطقة الخضراء وتحصينات الأجهزة الإعلامية التي نجحت في تسويق الشخوص التي تتبارى على المسرح السياسي للحصول على أعلى منصب سياسي وهو رئاسة الوزارة، ونجحت كذلك في امتصاص الكثير من نقمة الجماهير التي تفتقر إلى وجود قيادة حقيقية لتحويل غضبها المشروع إلى فعل سياسي.

سُودِت خلال هذه الفترة مئات الآلاف من صفحات الصحف وامتلأت آلاف الصفحات في عشرات المواقع على الإنترنت بالمقالات السياسية حول أزمة العراق، وعقدت آلاف الندوات في سياق ذلك شارك فيها مئات الأشخاص مختصين وغير مختصين داخل العراق وخارجه وسمعنا خلالها حوارات هادئة بناءة وأخرى صاخبة تبارى فيها المشاركون في الصراخ والشتم، ومع كل ذلك لا تزال الأزمة باقية لم تتراجع حدتها. وليس هناك في الواقع ما يمنع استمرارها لفترة أخرى.

أبرز ما شهدته خارطة التوازنات في المشهد العراقي مؤخراً هو تمزق الائتلاف الوطني فقد انحاز الصدريون (40 نائباً) إلى دولة القانون (89 نائبا) وانحاز إليه كذلك رئيس منظمة بدر وتيار الإصلاح الوطني (نائب واحد) والمؤتمر الوطني العراقي (نائب واحد)، ومع ذلك ليس بقدرة دولة القانون تشكيل الحكومة التي يتطلب موافقة 163 نائبا. من جانب آخر أصبح من تبقى من الائتلاف الوطني وهم المجلس الأعلى الإسلامي وحزب الفضيلة ومنظمة بدر أكثر قرباً إلى القائمة العراقية.

وفي موقف مثير حدث مؤخراً تراجعت القائمة العراقية عن حقها الدستوري في تشكيل الحكومة معلنة مساندتها مرشح الائتلاف الوطني لرئاسة الوزارة عادل عبد المهدي مما يمهد الطريق لإقامة تحالف واسع يضم القائمة العراقية والمجلس الأعلى الإسلامي وحزب الفضيلة وكتل سياسية أخرى صغيرة لسد الطريق أمام المالكي وإضعاف فرص عودته لرئاسة الوزارة. إلا أن هذا التحالف سيكون هو الآخر غير قادر على الحصول على الأغلبية في المجلس النيابي لتشكيل الحكومة.

كما شهدت الخارطة السياسية ولادة ائتلاف جديد هو ائتلاف الوسط (عشرة نواب) اندمجت فيه كتلة التوافق مع وحدة العراق. وليس من المستبعد كلما اقتربت العملية السياسية من مرحلة النضوج أن نشهد انشقاقات أخرى وإصطفافات جديدة تتحكم في مفاصلها بعض من المبادئ وبعض من المصالح.

فالراصد للمشهد العراقي لا يفوته أن يلحظ بأن هناك عددا محدودا جداً من النواب يتصدرون هذا المشهد في حين أن غالبية النواب الذين يبلغ عددهم 325 نائبا بعيدون عن الأنظار ولا نعرف حقيقة مواقفهم.

كما طفت على السطح في الأيام القليلة الماضية الخلافات داخل التحالف الكردستاني بين الحزبين الرئيسيين وحركة التغيير (كوران) حول قانون الانتخابات الخاص بإقليم كردستان وحول مسار المحادثات الجارية لتشكيل الحكومة وتجديد ولاية رئيس الجمهورية جلال طالباني، ولا يستبعد بعض المراقبين انشقاق هذه الحركة عن التحالف.

وهكذا أفرز المشهد السياسي العراقي مرشحان لمنصب رئاسة الوزارة لا يتمكن أي منهما من الحصول على الأغلبية التي تؤهله لنيل المنصب بالقوى المساندة له. كما أن أي منهما في حالة فوزه سيكون مقيداً إلى حد كبير بالتوازنات المعقدة التي أهلته للمنصب ومديناً لحلفائه بالكثير.

في هكذا وضع عاد التحالف الكردستاني من جديد ليلعب دور بيضة القبان التي تمتلك القدرة على كسر الجمود السياسي بانحيازها إلى هذا الطرف أو ذاك، وقد فتح هذا التحالف قنوات الحوار مع دولة القانون ومع العراقية في آن واحد موضحاً بصراحة بأن من يوافق على العدد الأكبر من مطالبه التي وضعها في تسعة عشر نقطة سيربح أصواته.

ومع أن علاقة هذا التحالف بالمجلس الأعلى الإسلامي على مدى سنوات طويلة أفضل من علاقته مع حزب الدعوة، كما أنه في ليبراليته أكثر قرباً إلى القائمة العراقية وجمهورها الملاصق له جغرافياً إلا أنه يبدو أكثر ميلاً للتحالف مع دولة القانون رغم أن تصريحاً بذلك لم يصدر عنه بعد وذلك لأن المالكي هو الأقوى في الوقت الحاضر من جهة ولأن إيران والولايات المتحدة تحبذان استمراره لولاية ثانية من جهة أخرى. فاستمرار تفاوضهم مع القائمة العراقية عامل ضغط على دولة القانون والعراقية في الوقت نفسه وذلك لانتزاع المزيد من التنازلات.

من جانب آخر لم تتلق واشنطن الدعم الصدري للمالكي بارتياح وترددت بعض الأنباء بأنها لم تعد حريصة على دعمه فهي تصر على استبعاد التيار الصدري عن مفاصل الدولة وخاصة الأمنية منها. والحقيقة أن تحالف الصدريين مع المالكي يراه البعض عاملاً أضعف المالكي سياسياً أمام الولايات المتحدة رغم أنه أخرجه من عزلته ودفعه بقوة نحو منصب رئاسة الوزارة.

الأيام القليلة القادمة ستكون حاسمة فضمان تأييد التحالف الكردستاني وكسب أصواته تتطلب إرضاءه وقد يكون ثمن الإرضاء باهظا جداً لا تستطيع دولة القانون أو العراقية ضمان تماسكها إزاءه.