إياد الدليمي

تتعالى بين وقت وآخر الأصوات التي تدعو الساسة العراقيين إلى تشكيل الحكومة بعيدا عن ضغوط الخارج، ودوله الإقليمية تحديدا. مؤكدة أن أية حكومة تُشكل بتوافق بين القوى السياسية العراقية ستكون أفضل من مثيلتها التي تُشكل بتوافق دول الجوار.
وربما يكون هذا الكلام منطقيا، وربما أيضا أنه سيكون دقيقا، لكن ربما أيضا أن القائلين بذلك هم من فئة الحالمين الذين ما زالوا يعتقدون بتحقيق المعجزات، في زمن باتت معجزاته تصنع ولا تنتظر.
مخطئ من يظن أن هناك إمكانية لدى هذه القوى السياسية في العراق لتشكيل حكومتها بمعزل عن دول الجوار، فلدول الجوار مصالح وأجندات وأفضال لدى غالبية هذه القوى، لا يمكن نكرانها أو التملص منها.
هناك قوى سياسية عراقية نشأت وكونت شخصيتها في تلك الدول المجاورة، وهناك قوى سياسية لم تكن موجودة على خارطة العمل السياسي قبل 2003، إلا أنها أنبتت وأنشئت بفعل الأموال التي تدفقت عليها من الخارج، كما أن هناك قوى أخرى تميل حيثما مالت مصلحتها، وتبحث عن ممول يدفع لها أكثر.
وبين هذه النماذج الثلاثة، يضيع وقت العراقيين بانتظار تشكيل حكومتهم العتيدة التي مضى على إجراء الانتخابات المرشحة لها أكثر من 7 أشهر دون أن يكون هناك أي ضوء في نفق معتم تزداد عتمته كلما أضاء أحد الساسة العراقيين مصباح بيته، تاركا العراقيين يغرقون في عتمة ظلامهم الدامس.
الحكومة العراقية الجديدة لن ترى النور إلا في ظل توافق إقليمي عليها، فالإقليم المجاور للعراق بات اليوم القوة الأكثر نفوذا، حتى أكثر من صاحبة الاحتلال الولايات المتحدة الأميركية، بل إن بعض المراقبين يميزون اليوم بين دور أميركي يسعى لتهدئة الأوضاع تمهيدا للخروج والانسحاب بنهاية عام 2011 وبين دور إقليمي آخر يسعى إلى إشعال فتيل الأزمات وعودة العراق إلى مربع العنف الأول بحثا عن تحقيق مكاسب إضافية.
نعم، هناك اليوم قوى عراقية تسعى للخروج من ربقة التبعية لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك، وهناك أيضا قوى أعلنت تمردها على حاضنتها الأولى، بغية أن تكون أكثر قربا من العراقيين، لكن لا يبدو أن الوقت قد حان أمام هذه القوى للتخلص بشكل تام من تلك التبعية، فما زالت أجهزة التحكم في العديد من مفاصل الدولة العراقية التي أرادها الاحتلال الأميركي تمسك بها قوى إقليمية متعددة.
اليوم، هناك ما يشبه الرغبة العارمة من قبل العراقيين لرؤية أغلب ساستهم الجدد خلف الحدود، يعودون من حيث جاؤوا، ويكفي أن تشاهد بثا حيا لإحدى القنوات العراقية لتسمع حالة الغضب الشعبي المتصاعد من قبل العراقيين على ساستهم، إلى الحد الذي تخجل حتى القنوات المناهضة للحكومة العراقية من بثه.
الكيل بالنسبة للعراقيين طفح، ولم يعد في قوس الصبر من منزع ليستعينوا به على مواجهة تجاذبات ساستهم. لكن لا يبدو أن هؤلاء الجالسين خلف أسيجة الكونكريت في أبهى بقعة ببغداد، يأبهون بذلك.
إيران تريد أن يكون المالكي رئيسا للوزراء، فهو -كما عبرت وزارة الخارجية الإيرانية- الأنسب لقيادة العراق في ظل الانسحاب الأميركي المرتقب. وهو -بحسب ما قالته طهران خلال زيارة المالكي الأخيرة- عارف بتفاصيل الأمور في العراق، وصار صاحب خبرة طويلة في إدارة ملفاته المعقدة، لذا فهو الأنسب لقيادة العراق، وفقا لرؤية طهران.
بالمقابل، هناك دول إقليمية عربية ومعها تركيا، ترى أن السيد المالكي فشل في إدارة دفة الأمور في العراق، وتضرب مثلا على ذلك بهذا الجفاء الحاصل بين العراق ومحيطه العربي منذ أن تولى المالكي دفة الأمور.
وهذا الطرف الآخر في معادلة التدخل الإقليمي بالعراق، يرى أنه من الضروري إسناد مهمة الحكومة الجديدة إلى شخصية فوق الميول والاتجاهات الطائفية لتخرج العراق من قعر أزمته التي رافقته منذ غزته الولايات المتحدة الأميركية. مشيرة بيدها إلى زعيم laquo;القائمة العراقيةraquo; إياد علاوي.
وليس بعيدا عن طرفي المعادلة الإقليمية -بشقيها العربي التركي من جهة، والإيراني من جهة أخرى- تقف الولايات المتحدة موقفا يراه البعض محيرا، فهي تريد المالكي لأنه وفقا لرؤيتها قابل لتنفيذ رغباتها أولا، وثانيا هو يحظى بدعم إيراني. الأمر الذي سوف يسهل من عملية الانسحاب الأميركي من العراق نهاية عام 2011.
ومن جهة أخرى فإن أميركا لا ترغب في إزعاج حلفائها من العرب، لذلك كان الحديث عن إمكانية تقاسم السلطة بين المالكي وعلاوي.
نعم، لن يكون ممكنا أن تغلق بغداد وساستها الباب على نفسها وتجلس لتختار حكومتها، فالأمر ما زال في طور الحلم، وقد تحتاج بغداد إلى ثمانية أو اثني عشر عاما لتصل إلى هذه النهاية.
أما الآن فشاوروا وتحادثوا واستمعوا حتى ارضخوا لمطالب الجوار الإقليمي، فرضاهم أولى من رضا العراقيين القابعين في سجن كبير اسمه الوطن!