رشيد الخيّون
حسب مراقبة المشهد العِراقي، ومِنْ خلال موائد المباحثات الطَّويلة الأمد واللجوء إلى دول الجوار، فإن الحكومة التي ستشكل -إذا تشكلت- لن تختلف عن الحكومة القائمة، مِنْ حيث الكفاءة والأمانة، وستكون حكومة أحزاب وقوى تتصارع مِنْ أجل الفوز بالسلطة، وهذا ما هو واضح مِنْ التباينات الحادة. ولا يسمع العِراقي سوى عبارات: مخالفة الدُّستور وموافقته، وحسب الأهواء. والنَّظر في المادة السابعة منه: quot;لا يجوز سن قانون خلال المرحلة الانتقالية يتعارض مع ثوابت الإسلام المجمع عليها ولا مع مبادئ الديمقراطيةquot; (دستور 2005)، يكفي أنه يكون quot;حمال ذو وجوهquot;. فمحرمو الموسيقى شرعوا بتطبيق الدُّستور، وأهل الموسيقى يطالبون بتطبيق الدُّستور أيضاً! وإذا وصل الحال إلى تحريم الموسيقى، بمادة دستورية، فرحم الله عبد الرَّحمن البناء (ت 1955) حين قال: quot;فما عذركم في أمةٍ قد تقهقرت.. ولم يبق فيها غير صرة الخائبquot;.
أما سياسة الحكومة فانظروا في هوائيتها: كان السَّيد نوري المالكي، المنتهية ولايته منذ أكثر مِنْ سبعة شهور، يدرك أهمية المصالحة الوطنية، والتفاهم مع دول الجوار، وسوريا في المقدمة، لكنه لم يتقدم خطوة لتنشيط عمل المصالحة، ولا التفاهم مع الجارات، حتى وجد تجديد ولايته يتعلق في الأمرين، فاندفع بخطوات لافتة للنَّظر. لأن الأمر غدا متعلقاً به شخصياً، فتحولت سوريا بغمضة عين مِنْ مصدرة للإرهاب، ووجود أدلة دامغة، حسب خطاب المالكي السابق بعد كلِّ تفجير، إلى التوقيع على اتفاقيات لتزويدها بالنِّفط!
على أية حال، ذلك دهر قد مضى، وعلينا بالآتي، وربما سيجدد للمالكي أربع سنوات أُخر، لكن ما العمل؟ ما هي خططه؟ هل أعد كشفاً يعلنه على الملأ بمساوئ ما خلفت الأربع الماضيات! أما المديح فليتركه لغيره، والعراقي ليس بخيلاً في كيل المديح لمن أحسن إليه، سواء كان رئيس وزراء أو شرطياً! لكن مشكلة المالكي أنه يريد المديح بلا مقابل، ومازال شحيحاً بكشف ملفات الفساد، وهو الآفة الأولى بالبلاد.
يمكن للمالكي أن يلعب دوراً وطنياً وإنسانياً، على المستوى الشَّخصي، بعد الاستفادة مِنْ الأخطاء القاتلة في إدارة العراق، وأولها ألا يقبل بوزارة المحاصصة، وأن يبتعد عن إدارته السابقة، فهي إدارة حزبية غير مؤهلة. ألا يُقدم نفسه رئيساً لحزب، فيعتني بشهداء حزبه دون الآخرين، ويُعيد النَّظر بمستشاريه، ورؤساء الدَّوائر حسب التخصص.
لعلَّ المالكي سيُقدم استعداده لكلِّ ما يُطلب منه، وربما سيمضي على ورقة بيضاء ليملي مَنْ يريد شروطه، فهناك تعطش للسلطة غير عادي بعد ذوق حلاوتها، وهذا شعور بشري، فالمالكي ليس من الملائكة إنما نسبة لموالاة قبيلة بني مالك. لكن الثمانية والعشرين مليون مواطنة ومواطن يريدون الأمن والأمان أولاً، ثم الوصول إلى ثروة بلادهم، عبر الخدمات، وحسب الوضع الحالي، يكون آخرها التعليم والفنون والثقافة.
مع أن أول الوزارات المراد إعادة النَّظر في إدارتها هي التَّربية والتعليم، لأنها تشكل العقل العراقي القادم، فوزيرها لم يتوزر لمؤهله العلمي ولا التربوي، وإن أربع عشرة مديرية تربية مدراؤها مَنْ حزب واحد، فهل اُختير هؤلاء على الكفاءة، وهي دوائر مهنية! لقد وصل الحال أن يُضرب تلميذ الأول ابتدائي لعدم إتقانه الشهادة الدِّينية، حسب المذهب، هذا ما حدث مثلاً بمدرسة المقداد، حي البنوك، ضُرب يسار لأنه لم يتشهد بالشَّهادة الثُّلاثية! ولو تقصينا مآسي التربية والتعليم لا يكفي المقال، إنها وزارة تشكل عقلاً متخلفاً، لا صلة له بالزَّمن.
أما وزارة النفط، فحسب تقرير حكومي تبنته لجنة شُكلت لهذا الغرض، فإنها تدار بمزاج شخصي، ووزيرها لا صلة له باقتصاد النفط، وإنها متهمة بإبعاد الكوادر النفطية. لذا لابد مِنْ إعادة النظر بإدارة هذه الوزارة، لأنها عمود اقتصاد العِراق الفريد، فلا زراعة ولا صناعة، لا مصدر سوى النَّفط، فلابد مِنْ وضع الوزارة تحت عقل اقتصادي وباقتصاد النفط، والعراقيات ولدن مثل هؤلاء، ويرغبون بخدمة بلادهم. نؤكد على هاتين الوزارتين لأننا نرى الوزيرين متصدرين لماراثونات قائمة quot;دولة القانونquot;، والأمر يوحي أنهما سيكونان مِنْ المبشرين!
ينظر لوزارة الثَّقافة، حسب الإسلام السياسي، أنها وزارة موسيقى وغناء وباقي الممنوعات، على شاكلة ما حدث بمحافظة بابل، لكنها بحاجة إلى وزير يُعنى بالثقافة، ووكلاء وزارة يعنون بالثقافة، فما هو حاصل أن الوزارة معطلة، فإما إلغاؤها وإما جعلها وزارة ثقافة بالفعل، لا مكان للتوظيف والامتيازات. لا ندري كيف قبلت حجة وزير المال وهو يُقدم نفسه، في أول توزير له بعد أن دار على وزارة الإسكان والداخلية ثم المالية، أنه أهل لهذا المنصب، لأنه كان يتصل بالبنوك عندما كان يعمل بدكان والده! ففي أية أمة جرت مثل هذه المهزلة!
لو أمعنا النظر في الوزارة السابقة، وهي ليست كلها مِنْ خيارات المالكي إنما مِنْ خيارات الأحزاب أو مَنْ يدعون أنهم زعماء الطَّوائف، لوجدناها مثقلة بالوزراء غير المهنيين، وابتلى بعضهم بالفساد المالي، وأزيح وزير وتوكل آخر، سار على المنهاج نفسه. للأسف تشكلت خلال السنوات السابقة، التي تلت السقوط، طبقة مِنْ النفعيين غير المؤهلين للمناصب، زادت مجالس المحافظات الطين بلة، فعلى عجل تلفع المحافظون عباءات الفقهاء، هذا حرام وذاك حلال، بعيداً عن التفكير برفع المستوى العلمي والثَّقافي والاجتماعي، وهم يريدون، ومِنْ مصلحتهم، أن تفرغ الدوائر والمدارس عند أية شعيرة دينية، إذا كان ما يحدث مِنْ اضطراب، يحسب مِنْ الشَّعائر الدِّينية.
لستُ بموقف اللائم على ما حصل، لكن العبرة أن يؤخذ ذلك بنظر الاعتبار، ويُصار إلى تشكيل وزارة تكنوقراط، أهل المهن والخبرة، مِنْ حقيبة الخارجية إلى وزارة الماء والكهرباء، فالزَّمن أزف والمآسي قد تفاقمت، والحبل أخذ يضيق: quot;فتداركي الخطر الذي مِنْ شرِّه.. سيكون مقتبل البلاد مهدداquot; (لمحمد صالح بحر العلوم، شعراء الغري). إن تدارك الخطر لا يتم إلا عبر حكومة فن ودراية، يسمونها quot;التكنوقراطquot;.
هناك دول هائلة التَّطور تراها ملتزمة، عند الأزمات، بهذه الفئة، النظيفة مِنْ التعصب إلا لمهنيتها. فلا تعني حكومة التكنوقراط أكثر من حكومة laquo;الأكفاءraquo;. فهي حسب quot;المنجدquot;: quot;جملة الأساليب أو الطَّرائق التي تختص بفن أو مهنةquot;. وحسب قاموس هادي العلوي (ت 1998): quot;حكم الفنيينquot;! تضمن هذه الحكومة حرص موظفيها على إدارة دوائرهم، وإلا فـquot;فاقد الشَّيء لا يعطيهquot;!
التعليقات