فايز سارة


كثر الحديث في الآونة الاخيرة عن المخاوف التي تحيط بالمسيحيين ومستقبلهم في البلدان العربية، والاساس في هذه المخاوف يتصل بأمرين اثنين، اولهما التهديدات الامنية التي تحيط بهم في بلدان منها العراق ومصر، والثاني تهديدات سياسية تتصل بتراجع حضورهم ودورهم السياسي الذي اعتادوا القيام به، كما هو الامر في لبنان الذي سجل في ظاهر الامر تراجعاً لدور المسيحيين فيه.

وقد زاد بعض الحديث عن اوضاع المسيحيين الى ما سبق الاشارة الى عمليات الهجرة المسيحية الواسعة الى الخارج ولا سيما الى اوروبا والولايات المتحدة، وهي هجرة اصابت مسيحيي معظم البلدان العربية وبخاصة سورية ولبنان وفلسطين ومصر والعراق، وهي الدول التي تضم أكبر حضور مسيحي في البلدان العربية.

وتنقسم التهديدات الامنية التي تصيب المسيحيين الى نوعين: اولهما، ناتج من الانشطة الارهابية التي تقوم بها جماعات متطرفة وعصابات مسلحة ضد تجمعاتهم وكنائسهم في عمليات هدفها الرئيس ترويعهم ودفعهم الى الهجرة تاركين املاكهم خلفهم، وقد ظهرت تلك الافعال الإجرامية على نحو واسع في العراق في فترة ما بعد الاحتلال الاميركي عام 2003، فدفعت أعداداً كبيرة من المسيحيين الآشوريين والكلدان والارمن للهجرة خارج العراق، ودفعت بعضهم لهجرة داخل العراق للعيش في مناطق آمنة.

والنوع الثاني من التهديدات الامنية، ناتج من توترات دينية بين مسيحيين ومسلمين، وهي توترات حديثة العهد في الواقع العربي، والأبرز فيها ما شهدته مصر بين المسلمين والأقباط، والتي استندت الى تفاصيل وحيثيات لا يمكن ان تكون سبباً في صراعات دينية لولا وجود احتقانات ذات خلفيات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، شكلت ضغطاً دفع المسلمين والأقباط المصريين الى دخول الصراعات العنيفة من البوابة الدينية.

وبطبيعة الحال، فإن التهديدات الامنية، كما في المثال العراقي، ادت الى تطورات سياسية، ألحقت ضرراً بالحضور وبالدور المسيحي الضعيف اصلاً في العراق، لكن هذا الامر كان أكثر وضوحاً في لبنان، حيث الحضور العددي للمسيحيين أكثر ثقلاً وفاعلية مما هو عليه الحال في العراق. اذ يقارب عدد المسيحيين هناك عدد أقرانهم من المسلمين السنّة، وهو قريب من عدد إخوانهم المسلمين الشيعة... وبفعل ظروف معقدة، تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية والديموغرافية، تراجع الحضور والدور المسيحي في لبنان، وكان بين تعبيرات هذا التراجع، إقرار توافقات سياسية لبنانية، ادخلت تعديلات على محتوى النظام السياسي اللبناني ومضمونه الذي أخذ المسيحيون مكانة القيادة فيه، خلافاً لمضمون اتفاقي الطائف والدوحة اللذين غيّرا تلك القاعدة، وهو ما ترافق مع صعود التعبيرات السياسية لكل من السنّة والشيعة في ظل انقسام وتشظي التعبيرات السياسية للمسيحيين، يضاف الى ما سبق، واقع الاختلال الديموغرافي (من حيث انخفاض عدد المسيحيين) الذي اصاب التركيبة الدينية والطائفية في لبنان بفعل عوامل متعددة، كانت الهجرة احدها، وإن لم تكن اهمها.

وهجرة المسيحيين من البلدان العربية، ليست ظاهرة جديدة، لكنها تصاعدت وتكثفت في المراحل الاخيرة لأسباب متعددة، منها التهديدات الامنية وتهميش الدور السياسي. لكن، هناك اسباب اخرى منها الظروف الاقتصادية التي صارت اليها الاوضاع في اغلب البلدان العربية التي فيها وجود مسيحي، وقد لعبت الأزمات الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية دوراً طارداً للمسيحيين دافعة اياهم الى الهجرة بحثاً عن ظروف عمل وحياة افضل، وكان للاحتلال الاسرائيلي وما جلبه من آثار مدمرة على حياة الفلسطينيين دور كبير في دفع المسيحيين في فلسطين للهجرة، سواء نحو المحيط العربي او باتجاه اوروبا والولايات المتحدة. وفي كل الاحوال، ثمة وجود عربي مسيحي ملموس، انتقل الى هناك بهدف الاقامة او العمل او الدراسة، قبل ان يستقر هناك مهاجراً.

وعلى رغم خصوصيات ما اصاب المسيحيين في البلدان العربية، والتي تدفع الى الخوف عليهم، فإن ما اصاب المسيحيين يشبه بمعظم تفاصيله، ما اصاب الآخرين من مواطني البلدان العربية الذين عاشوا تهديدات امنية، وتهديدات وترديات سياسية، وقد تواصلت فصول منها في العراق ومصر ولبنان وبلدان كثيرة غيرها، اضافة الى ترديات الاحوال السياسية والاقتصادية وما صاحبها من ازمات ومشاكل اقتصادية اجتماعية، دفعت ولا تزال كثيرين من العرب المسلمين والمسيحيين على السواء للهجرة بحثاً عن ظروف حياة افضل او بحثاً عن عمل او توجه الى الدراسة، ادت كلها الى استقرار في بلدان الهجرة ولا سيما في اوروبا والولايات المتحدة.

ان الخوف على المسيحيين، يماثل الخوف على غيرهم من مواطني البلدان العربية بفعل التشابه القائم بين الاثنين، إذ لا يميزهم سوى انتماء ديني، يعود في اساسه الى الفضاء الحضاري ذاته الذي يعود اليه الانتماء الديني الاسلامي، وإن كان ثمة خوف في الموضوع فهو خوف على التنوع الديني الذي طالما تميزت به هذه المنطقة عبر التاريخ، وهو تنوع ينبغي الحفاظ عليه في كل الاحوال، وهذه مسؤولية الحكومات كما هي مسؤولية المجتمع، ومسؤولية كل فرد ايضاً.