العزب الطيب الطاه


لديّ نوع من اليقين لا ينهض على معلومات مؤكدة ولكنه يستند إلى قدرٍ من الحدس بأن الرحيل المفاجئ لجون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان قبل ست سنوات- خاصة بعد التوصل إلى اتفاق سلام مع الحكومة المركزية في الخرطوم -لم يكن مجرد حادث طائرة عادية ولكنه كان مدبرا ومرتبا وفق تخطيط محكم وشديد الغموض بحيث لا تبدو أبعاد المؤامرة فيه.
أقول هذا الكلام رغم أن لجنة التحقيق التي شكلت عقب الحادث أثبتت عكس ذلك وأنه كان نتيجة خلل فني في الطائرة الهليوكوبتر التي كانت تقل قرنق في طريق عودته من أوغندا إلى جنوب السودان.
فالرجل - وأقصد به جون قرنق - رغم قيادته لحركة التمرد في الجنوب إلا أنه كان يتطلع إلى إعادة صياغة الوطن من جديد على أسس وحدوية بعيداً عن التشرذم والتقسيم ومن ثم فإنه بعد بلورة اتفاق سلام نص في أحد بنوده على حق تقرير مصير الجنوب -وهو النص الفخ الذي وقع فيه قيادات الحكومة المركزية- كان من الضروري إبعاد هذا القائد الجنوبي الذي ينحاز بطبيعة تكوينه السياسي والعسكري والفكري إلى خيار الوحدة ولو أدى الأمر إلى انتهاج تدبير محكم لرحيله بشكل مفاجئ عبر حادث يبدو طبيعياً وعادياً من خلال النظرة السطحية وهو ما تحقق بالفعل ففي أعقاب رحيل قرنق صعد إلى القيادة نائبه مليارديت سلفاكير والمعروف بتوجهاته المناوئة للوحدة وإن كان قد أظهر ميلا شكليا لها عبر تصريحات فضفاضة وهلامية الملامح.
وقد تيقنت من هذه الحقيقة عندما زار سلفاكير الدوحة قبل نحو ثلاث سنوات وحاصرته بالأسئلة حول تصوراته للوحدة في المؤتمر الصحفي الذي عقده بسفارة السودان آنذاك فقدم إجابات مراوغة حاول فيها أن يبدو منسجماً مع أطروحات الوحدة ربما تناغماً مع المناخ العام السائد في ذلك الوقت والمؤيد لبقاء السودان وطناً للجميع بكل عرقياته وثقافاته من دون تشطير ومع ذلك لمست في الرجل شعوراً دفيناً نافراً من الوحدة ومقبلاً على الانفصال وما هو عمل عليه فيما بعد بتؤدة وعبر عملية منظمة يستخدم فيها آلية توزيع الأدوار مع القيادات التي صعدت معه إلى مركز القرار في الحركة الشعبية وفي مقدمتهم أمينها العام باقان أموم وغيره فبينما هو يعلن من حيث الشكل انحيازه لخيار الوحدة الجاذبة يتحرك آمون داخلياً وخارجياً لتسويق خيار الانفصال وشق وحدة الوطن والعمل عبر قنوات سرية للإعداد لمقومات دورة الانفصال وفي مقدمتها إعداد قواتها المسلحة والحصول على صفقات سلاح على نحو مستقل عن الخرطوم وبلغ الأمر مداه عندما نظمت الحركة معرضاً دولياً للسلاح في جوبا قبل سنتين- إن لم تخني الذاكرة - وفي الآن ذاته تتواصل التحركات الخارجية لاستقطاب العناصر المناوئة لوحدة السودان في عواصم أوروبا والولايات المتحدة وصناعة ما يشبه مجموعات الضغط السياسية في هذه العواصم لدفع حكوماتها إلى مساندة انفصال الجنوب.
وعندما أعلن سلفاكير خلال الأسبوع المنصرم استعداده لفتح سفارة للكيان الصهيوني بعاصمة الإقليم الجنوبي جوبا تيقنت من أنه وصل إلى مرحلة الذروة في سعيه لتكريس خيار الانفصال مستعيناً في ذلك بما تتلقاه الحركة الشعبية وما يسمى بحكومة الجنوب من دعم وإسناد لوجستي من قبل الكيان والغرب عموماً وعلى الأخص أمريكا التي يقود رئيسها باراك أوباما الضغوط الدولية على حكومة السودان لدفعها للاستجابة لخيار الانفصال من دون حل المشكلات العالقة بين الشمال والجنوب وهو ما يتجلى في إصرار واشنطن على ضرورة إجراء استفتاء تقرير مصير الجنوب في موعده رغم عدم توافر الشروط الموضوعية التي تجعل من هذا الاستفتاء شرعياً ومؤسساً وفق ضوابط ومحددات النزاهة والشفافية حتى يفضي إلى بلورة خيار الجنوبيين على نحو واضح وعادل ويتوافق مع تطلعاتهم الحقيقية.
والشاهد أنه حتى هذه اللحظة لم تحسم الكثير من الإشكاليات العالقة بين شريكي الحكم في السودان خاصة فيما يتعلق بمنطقة أبيي وترسيم الحدود وكيفية التعامل مع ثروة النفط وطبيعة العلاقات المستقبلية بين الشمال والجنوب والديون الخارجية المستحقة على السودان وغيرها من الألغام الموقوتة القابلة للانفجار في أي وقت وهنا تتجلى المخاطر فلا يمكن الاندفاع نحو إجراء الاستفتاء من دون إيجاد حلول عادلة وواضحة مع ضمانات إقليمية ودولية حتى لا تتجه الأمور إلى حرب أهلية بدت نذرها تلوح في الأفق عبر حشد كل طرف لقواته المسلحة في المناطق الحدودية بل إن أطرافاً داخل الجنوب معروفة بمناهضتها الشديدة للوحدة تراهن على الحرب الأهلية بحسبانها المدخل لتحقيق الانفصال إذا لم يتم عبر الاستفتاء خاصة في ظل الدعم الخارجي الذي تحصل عليه الحركة الشعبية.
وفي المقابل لا يمكن للمرء ألا يحمل الحكومة المركزية في الخرطوم قسما من المسؤولية عن إعلاء قيمة الانفصال ولعل التصريحات التي أدلى بها القيادي لحزب المؤتمر الوطني قطب المهدي مؤخرا والتي أشار فيها إلى أن الجنوب كان يمثل عبئا على التنمية على مدى نصف القرن الماضي وهو ما يمكن أن يوفر ذريعة قوية لدعاة الانفصال في الجنوب وفقا لمقولة (وشهد شاهد من أهلها) إضافة إلى ذلك فإن الحكومة المركزية لم تسع طوال السنوات الست المنصرمة إلى المبادرة بسلسلة مشروعات تنموية في الجنوب في سياق ما تم الاتفاق عليه عند توقيع اتفاق نيفاشا بخصوص جعل الوحدة جاذبة وهو أمر كان يتطلب من هذه الحكومة تحركا نشطا وسريعا ومكثفا رغم أن الدكتور مصطفى عثمان مستشار الرئيس البشير نفى أي حديث أجريته معه العام الماضي ذلك بشدة متهما حكومة الجنوب بأنها هي من كانت تحول دون تنفيذ المشروعات الوحدوية.
على أي حال يبدو أن السودان دخل منطقة الوجع والتي قد تقوده في الحادي عشر من يناير المقبل إلى عملية جراحية تستأصل جنوبه ارتهانا لإرادات أعداء الوحدة في كلا من الشمال والجنوب والراغبين في تمزيق أواصر هذا الوطن الكبير بما يكرس مصلحة الغرب والكيان الصهيوني في إطار صياغة جيوسياسية جديدة في المنطقة لن تتوقف حدودها عند السودان ولكنها ستمتد إلى دول كبرى تهيئ حاليا سياقاتها الداخلية لتتفاعل مع هذه الصياغة.
والتساؤل الملح يتعلق بدور النظام الإقليمي العربي فيما يتعرض له السودان والذي سيكون الضحية الأولى لو وقع الانفصال معاذ الله لأن وجود دولة غير عربية في جنوب السودان مرتبطة عضويا بالكيان الصهيوني وبأعداء العروبة. يضيف المزيد من المخاطر على الأمن القومي العربي وهنا المرء يشير على نحو شديد الوضوح إلى أن الدولة المصرية بشكل خاص ستجد نفسها في مواجهة مع دولة إضافية من دول حوض النيل السبع التي تخاصم حقوقها المشروعة في النهر العظيم فضلا عن أن الكيان الصهيوني سيجد له منفذا إضافيا لمحاولة حصار مصر من بوابتها الجنوبية وهو ما يعني أن انشطار الجنوب موجها بالدرجة الأولى ليس إلى خدمة شعب الجنوب وإن كان ذلك يبدو على السطح وإنما الأمر يتعلق بمصالح وإستراتيجيات قوى إقليمية ودولية مناهضة للنظام الإقليمي والأمن القومي العربي وفي بؤرته مصر.
السطر الأخير:
أدعوك يا الله يا خالقي الأعظم وأنا عبدك الفقير إليك المقصر في حقك أن تتغاضى عن ذنوبي وتشد من عضدي وتمنحني عافية أحتاجها يا رب بشدة منك وحدك وأن تزودني بطاقة أصارع بها وجعي الذي داهمني قبل أيام.
صابر أنا يا رب، راض بقضائك، منتظرا فرجك ورحمتك وعفوك فأنت الرحمن الرحيم لكي تعيدني إلى سيرتي الأولى . ..