توفيق المديني

يكشف التقرير الذي أصدرته منظمة مراسلون بلا حدود أخيراً، في نسخته التاسعة لسنة 2010، عن الحالة الخطيرة التي تعيشها أوضاع حرية الصحافة في العالم العربي، وعن التراجع الملحوظ في الحريات التي يتمتع بها الصحفيون العرب، ولا سيما أن الدول العربية في معظمها باتت تحتل المراكز المتأخرة في القائمة التي تضم 178 دولة.
وإذا كان الإعلام في بعض الدول الغربية قد بلغ حداً كبيراً من حرية التعبير أصبح معه الشعب يطالب بنوع من الرقابة بحكم طابع الدولة الليبرالي، التي تظل سيدة الإعلام والثقافة، ولكنها تريد قبل كل شيء إرضاء المستهلك، وتكييف ثقافتها مع الجمهور، فإن الإعلام في العالم العربي بلغ درجة كبيرة من البؤس والانحطاط، بسبب تحكم الدولة الشرطي فيه، بوصفها السيد المطلق، والرقيب والمدير المنتج. فما عادت خافية على أحد سيطرة أجهزة الدولة على منابر الإعلام، حيث أضحت هذه المؤسسات الإعلامية في العالم العربي تابعة للفئات السياسية الحاكمة، فأصبح مصدر الخبر الواحد، هو الحزب/ السلطة.
في ظل الدولة العربية، فإن وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية هي التي تشرف على الإعلام، وهي التي تتدخل عادة للحث على الكتابة في موضوع ما، أو النصح بعدم الكتابة في مواضيع أخرى، ومثل تلك التدخلات جعلت الصحافيين يكثرون من الاجتهاد في معرفة المواضيع المسموح بها، ما يعمق الرقابة الذاتية. أما الإنترنت، فإذا استخدم فعلى نطاق ضيق ومحدود مع تشفير أغلب المواقع المعارضة .
كأن هدف الدولة العربية في معظم أقطارنا يتمثل في خنق التعددية الإعلامية التي تفسح في المجال للنقاش الفكري والسياسي والثقافي في الصحافة العربية، وخنق الثقافة واستئصال معانيها أو سلبها أيضاً، وهو ما يعني غياب الرأي والرأي الآخر في القضايا الوطنية الكبرى التي تهم واقع الشعوب العربية ومستقبلها. وحيثما تتم عملية خنق الثقافة والإعلام والرأي الآخر، تتم السيطرة الكلية الاستبدادية على المجتمع وتطوره الداخلي، ذلك لأن الثقافة والإعلام الديموقراطي في جوهرهما نقيضان للتحكم الأمني بالمجتمع.
من أجل أن تكون هناك صحافة منافسة في عصر تمثل فيه وسائل الإعلام السلاح الأقوى، وتلعب فيه المعلومة الدور الأخطر، يجب أن تكون هناك حرية حقيقية في العالم العربي، وتعددية حقيقية في مصادر الإعلام. إن الحرية وتعددية المصادر هما اللتان تمكنان المعلومة من أن تنبثق في الصحافة وبوسائطها، بما فيه من صفة الإرباك للنظام الرسمي العربي القائم. فالمنافسة الحقيقية بين الصحف والإذاعات والتلفزيونات، المنافسة بين مصادر الإعلام، تعطي فرصة للمعلومة، التي تريد صحافة المال أو الدولة الأمنية خرقها.
من الجدير بالذكر في هذا الصدد أنه لا توجد في العالم العربي صحف للمعارضات العربية، تسهم إسهاماً فعلياً في تطوير الساحة الإعلامية وتشق الطريق لما يعرف بصحافة quot;الرأيquot;، وتخلق فضاءات من الحرية. فلا توجد صحافة مستقلة تسعى إلى تقديم خطاب سياسي إعلامي مغاير لخطاب السلطات الحاكمة، وتتحول إلى منابر للحوار الوطني والنقد السياسي، وتغطي جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتنشر الثقافة الديموقراطية، وترسخ مبدأ حق الاختلاف، وتحفز قطاعاً متزايداً من النخب المثقفة (من جامعيين ومحامين وطلاب أي جزء مهم من جمهور الفئات الوسطى) والمواطنين، للاهتمام بالشأن العام، والمشاركة في النشاط السياسي والجمعياتي، وتقدم مطارحات فكرية وثقافية، تعبر عن شواغل واهتمامات مختلف مكونات المجتمع المدني (أحزاب سياسية، جمعيات، منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والنقابات).
وبدلاً من أن يشهد الإعلام العربي، بمختلف مكوناته، تعددية حقيقية، واعترافاً فعلياً بحق الاختلاف في الرأي، شهدت الساحة الإعلامية العربية تدهوراً خطيراً، لجهة سيادة الخطاب الإعلامي الخشبي الزائف، فتراجعت بذلك الصحافة العربية التي يمكن تحديد أسبابها بالعوامل التالية:
1 - إن السياسة في العالم العربي لم تعد فاعلية اجتماعية عامة، مفتوحة ومتاحة للجميع، من دون قيود غير القيود الدستورية التي تقتضيها فكرة الحرية وممارستها، بل أصبحت حكراً مطلقاً على السلطة التي احتكرت المجال السياسي.
2 - النسق السياسي المغلق للدولة العربية أنتج خطاباً سياسياً وإعلامياً مغلقاً، ولا عقلانياً بالضرورة، خطاباً يجافي معقولية العالم، ويقف دوماً على طرفي نقيض.
3 - سيادة شكل التخاطب والتكاذب كأسلوب رئيس في العمل الإعلامي من أجل إرضاء السلطات العربية، لأن إرضائها هو مفتاح كل شيء للصحافي أو للمثقف أو أي شخص يعمل في حقل الإعلام.
حين تماهي الثقافة العربية السلطات العربية بالاستبداد تفقد صدقيتها، وحين يسود النفاق والكذب عقول المثقفين، تتخلى الصحافة عن دورها التقليدي في الدفاع عن الحرية، وحق الاختلاف، وممارسة النقد، وهذا هو حال الصحافة العربية، التي نقصت فيها المساحات المخصصة للتحليل السياسي واحتضان الآراء والمواقف الفكرية المختلفة مع مواقف وآراء السلطة إلى حد العدم، فضلاً عن ممارستها رقابة ذاتية صارمة للأخبار والمواقف التي ترى أنها لا تنسجم بشكل أو بآخر مع سياسة الدول العربية.