عبدالله خليفة الشايجي

عاد الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش إلى الأضواء بعد عامين من التواري والابتعاد عن الأنظار، بعكس حليفه رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي كان يعول عليه كثيراً. لقد أطل بوش عبر كتابه الذي يرصد فيه سجل قراراته وإنجازاته ويبرر فيه المواقف والسياسات التي اتخذها إبان رئاسته. حمل الكتاب الجديد عنوان quot;لحظات حاسمةquot;، وهو يتكون من497 صفحة، وقد طبعت منه دار quot;كراونquot; للنشر مليوناً ونصف المليون نسخة. وفي هذا الكتاب يرصد بوش أهم 14 قراراً اتخذها خلال سنوات حكمه في البيت الأبيض، والتي شملت فترتين امتدتا من يناير 2001 إلى يناير 2009. ويتعلق الأمر بأربعة عشر قراراً اتخذها بوش خلال ثمانية أعوام من الحكم حفلت بالكثير من الأحداث والقرارات، مثل اعتداءات 11 سبتمبر 2001 التي غيرت أميركا كلياً ودشنت حرب واشنطن على الإرهاب، وحربي أفغانستان والعراق، وبعض المواجهات مع قوى في العالم الإسلامي، كما عرفت شعار quot;من ليس معنا فهو ضدناquot;، علاوة على quot;عقيدة بوشquot; في الحروب الاستباقية، وتغيير الأنظمة. كما شهدت تلك الفترة استخداماً غير مسبوق لسلاح العقوبات التي تشكل أحد ركائز أيديولوجية quot;المحافظين الجددquot;، الجماعة التي تأثر بها بوش وصبغت توجهاتها قراراته وسياساته، ومجمل المشهد السياسي الذي تكون خلال تلك الفترة، فشكل إرثاً يثقل كاهل أوباما حالياً.

يسعى بوش في كتابه إلى ترميم وتحسين سمعته ومكانته وإرثه الثقيل، وإلى التأكيد على صواب قراراته التي ارتكزت إلى مبادئ quot;المحافظين الجددquot;، وذلك رغم المعاناة التي سببتها حروبه، ورغم وجود معتقل جوانتانامو، ورغم استخدام إدارته أساليب تعذيب محرمة دولياً.

الكتاب يسجل توثيقاً لقرارات بوش، ونظرته إلى اعتداءات 11 سبتمبر 2001، وشنه ثلاث حروب على الإرهاب وأفغانستان والعراق، وتعامله مع إعصار كاترينا المدمر عام 2005 والذي أثار الكثير من الانتقادات، وقراره ثم تراجعه عن اختيار نائب رئيس بدلاً من تشيني، وتفكيره في توجيه ضربات عسكرية لمنشآت إيران النووية، وفي منشأة quot;دير الزورquot; السورية بطلب من أولمرت قبل أن يتراجع عن ذلك.

العامان الماضيان شكلا نقطة تحول مفصلية زادت من انتقاد بوش بسبب تركته الصعبة، في بعديها الاقتصادي والسياسي، داخلياً وخارجياً. لقد غادر بوش البيت البيض بأدنى شعبية لرئيس أميركي في التاريخ، والسبب سياساته الاقتصادية، وحوافزه للشركات والأغنياء، وخفض الضرائب، وما نتج عن ذلك من أزمة مالية ضربت وتضرب الولايات المتحدة الأميركية. وبالطبع فقد كانت النتيجة انتصاراً كاسحاً للديمقراطيين الذين أقصوا الجمهوريين من البيت الأبيض. وخارجياً تراجع قبول الولايات المتحدة حتى بين حلفائها، فحروب بوش المتعددة وقراراته الحاسمة التي أتت بتداعيات خطيرة وبحسابات خاطئة، قوت وعززت خصوم واشنطن من دول ممانعة وحركات معارضة.

لا شك أن بوش، بما تركه وخلّفه من إرث، ابتداء بتفجيرات 11 سبتمبر 2001 وانتهاءً بانهيار مؤسسة quot;ليمان بروذرزquot; المالية وتحولها لكرة ثلج أدت لتفاقم أزمة الرهن العقاري كي تتسبب بأكبر أزمة مالية عالمية منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، مروراً بحروبه الكارثية ضد الإرهاب وأفغانستان والعراق، والتي لم ينجح في حسمها قبل تركه البيت الأبيض.

المشهد السياسي الأميركي، يشكل مادة مهمة يسلط بوش الضوء عليها في كتابه الجديد، والذي يتعرض فيه أيضاً لبعض القرارات المصيرية المهمة، ما يجعل الكتاب مادة دسمة للباحثين والمهتمين بالتأريخ لحقبة استثنائية. فبوش كان صانع القرار، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس الدولة الأقوى في العالم. فلا غرابة في أن يحظى كتابه باهتمام غير عادي. وفي الكتاب الذي وُصف بأنه مزيج من المواقف والمذكرات الشخصية، تبرير للحرب على العراق، والتي أدت إلى ما أدت إليه من نتائج بسبب quot;أسلحة الدمار الشاملquot;! وهنا يعترف بوش بـquot;الأخطاءquot; التي نجمت عن عدم دقة في التقارير الاستخباراتية الأميركية التي زعمت امتلاك صدام حسين أسلحة الدمار الشامل، والتي استخدمت من قبل إدارته في التسويق للحرب على العراق. إلا أن بوش في تبسيطه للأمور ورفضه تحمل تبعات ونتائج قراره بغزو العراق، يبسط الأخطاء ويقلل من شأن حرب قامت ضد القانون الدولي وعلى تهميش منظمة الأمم المتحدة والحلفاء، وأدت إلى تقوية خصوم أميركا وأعطتهم المزيد لمقارعة واشنطن وإفشال مشروعها؛ quot;الشرق الأوسط الكبيرquot;.

ولعل الملفت هو اعتراف بوش quot;بالصدمة والغضب عندما تبين عدم صحة التقارير. انتابني شعور بالغثيان وقتها ولا يزال ينتابني كلما فكرت في الأمرquot;. لكن اللافت أيضاً في كتاب مذكرات بوش وفي المقابلات الصحفية التي أجراها حتى الآن للترويج للكتاب، هو رفضه الاعتذار أو حتى الاعتراف بالخطأ والندم على أي قرار اتخذه، سواء أكان قرار الحرب على أفغانستان والعراق، أو موافقته الشخصية على أساليب التعذيب المبتكرة وخاصة quot;الإيهام بالغرقquot;، إذ يقر في الكتاب بأنه أعطى عناصر من وكالة الاستخبارات موافقة فورية على تعريض خالد شيخ محمد لعملية الإيهام بالغرق، للاعتقاد بأنه كان يملك معلومات مهمة عن اعتداءات قيد الإعداد. كذلك رفض بوش الاعتذار عن حرب العراق رغم كل المرارات والخسائر التي تكبدها العراقيون والأميركيون والمنطقةُ، ورغم ما أحدثته من تغير استراتيجي في موازين القوة الإقليمية، وكونها عززت دور أطراف ودول ومنظمات لم تكن لتحقق ما حققته بدون سقوط نظام صدام حسين في العراق وقبله نظام quot;طالبانquot; في أفغانستان. وبرأي بوش فإن quot;الاعتذار يعني أن قرار الحرب في وقتها كان خاطئاً، وهذا ليس صحيحاً... العالم مكان أفضل من دون صدام حسين، وغيابه يعني أن 25 مليون عراقي صاروا يتمتعون بالحريةquot;.

لا يمكن لبوش، وقبله بلير، أن يُحسّنا سجلاتهما بمذكرات تلوم الآخرين وتحملهم المسؤولية وتبرر الأخطاء. إن تقديم الاعتذار، وقبل ذلك الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت، وبالنتائج الكارثية للحسابات الخاطئة وللفواتير التي لا تزال تُسدد في الداخل الأميركي وفي الخارج، استحقاقات لا يمكن تجاهلها وتسطيحها بتلك المذكرات!