رشيد الخيون

ما بين الأحدين الدَّاميين (1 أغسطس 2004) و(31 أكتوبر 2010) نُكب العديد مِنْ كنائس العِراق، بالموصل وبغداد، ونُحر رهبان وقساوسة، وأُختطف آخرون، وقُتل طلاب جامعات. ما زالت صورة الشَّابة ساندي زهرة ماثلة أمام زملائها ومعلماتها، عندما نحروا في باص متجهٍ بهم مِنْ بغداد إلى جامعة الموصل (2 مايو 2010). كان التَّشييع بمظاهرةٍ لم ترفع فيها سوى أغصان الزَّيتون، وراهب تمتم متمنياً أن يكون هذا quot;العرس هو الأخير في هذه المأساة... مَنْ يريد تدمير بيت جيرانه فإنه يدمّر بيتهquot;!

لم تخفِ الأحزان على أولئك الفتية حتى كانت الفجيعة بمصلي كنيسة سيدة النَّجاة. لم يحسن العساكر إنقاذهم، فالإنقاذ في مثل هذه الأحوال فنٌ، شأنه شأن إنقاذ الغرقى. يحتاج إلى صبر ومداولة ودراية، لا هجومٍ قُتل فيه الجميع، ماعدا مفجوعين لا يعلمون كيف نجوا. وهي دلالة على أن السُّلطة، وبعد كلِّ هذه السَّنوات، لا تُحسن التَّعامل مع الطَّوارئ مِنْ الحوادث، وتريد التَّجديد، ولو لم يكن الأمر يتعلق بالدَّم لهان ذلك، لكنه الموت الأحمر! ولو كان للسلُّطة حيلةٌ ما كرَّ القتلة، بعد فعلة الكنيسة بساعات، وقتلوا ما شاؤوا مِنْ العراقيين.

تلك حوادث تخبر أن المصير واحد، فهي الطَّاعون لا يميز بين أهل الأديان ولا المذاهب، وما حلَّ ببغداد يحل يومياً بالأنبار والموصل وديالى وكركوك. لا عتب على القاتل، سوء أكان quot;القاعدةquot;، أو مرتزقة للقتل تجندهم مافيات المال، أو دول يهمها، معاندة لأميركا، جعل العِراق غابةً للصَّيادين، لكن العتب على مَنْ يدعون أنهم ثبّتوا الأمن، وكيف يثبت الأمن والقائمون على الجيش والمخابرات منهم سَّباكون وندلاء مطاعم سابقون! نعود ونقول: إنها عصبة الحزب المدمرة.

تعود كنيسة النَّجاة إلى طائفة السِّريان الكاثوليك، مِنْ أُصلاء العِراق، فهم تحولوا مِنْ النَّسطورية إلى مذهب اليعاقبة، نسبة إلى الرَّاهب يعقوب البرادعي (القرن السَّادس الميلادي)، وعرفوا بالسِّريان الأرثوذكس، والمنوفيزيين (أبونا، تاريخ الكنيسة الشَّرقية). وعرف المتحولون منهم إلى الكاثوليكية بالسِّريان الكاثوليك.

تقع الكنيسة بالكرادة الشَّرقية، مِنْ رصافة بغداد شرقي دجلة، تأسست في عام 1952، ووضع لها المعماري البولندي كافكا تصميماً على شكل سفينة، وافتتحت بتصميمها الجديد في مارس 1968 (الأب حداد، كنائس بغداد). تزين قاعة الكنيسة لوحة زيتية نفيسة للسَّيدة مريم، هي نسخة عن أيقونة يعود تاريخها إلى عهد البطريرك ميخائيل جروة (ت 1800) الذي زار القدس عام 1757 واشتراها مرسومة على الخشب (الأب المخلصي، مريم في كنائس العِراق). أعدها القس ميخائيل أوفي الكلداني في عام 1904، ونقلت فيما بعد إلى كنيسة النَّجاة، ولا أظن أنها نجت مِنْ التَّدمير الذَّي حل بالكنيسة في الأحد قبل الماضي. فكم مِنْ دماء سفكت، وكم مِنْ آثار دُمرت!

سيدة النَّجاة، التي قتلوا أتباعها أمام رسمها، هي مريم العذراء، التي قال فيها القرآن: quot;وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِquot; (آل عمران: 36). ولها سورة باسمها، ترتيبها التَّاسعة عشرة مِنْ بين سور القرآن. أتذكر أن أهل المدن والقُرى القصية كانوا يزينون بيوتهم بصورة مريم حاضنةً رضيعها المسيح، أسوة بما اعتادوا في تزيين بيوتهم بصورة علي بن أبي طالب، فلا حرج لدى النَّاس، لولا تسييس الدِّين، وما هؤلاء الفعلة بالكنائس والجوامع والحسينيات إلا مِنْ إرث ذلك التَّسييس.

مِنْ عوائد نصارى العِراق أن جعلوا لكنائسهم شفعاء، ومِنْ الاسم أن شفيعة هذه الكنيسة هي السَّيدة مريم. ومِنْ الأعياد التي يُحتفل بها في هذه الكنيسة بالذات، التي حولها التَّطرف الضارب في العقول إلى حمراء مِنْ أثر الدَّم وسوداء مِنْ أثر الدُّخان، هو عيد سيدة النَّجاة، الذَّي يُصادف 15 أغسطس. ومِنْ ألقاب مريم بالعِراق: حافظة الزُّروع، وسيدة الورود، وأم الأحزان (مريم العذراء في كنائس العِراق).

المسيحيون العراقيون هم أحفاد البابليين والآشوريين، يعرفون قومياً بالكلدان والسِّريان، شأنهم شأن الصابئة المندائيين أحفاد الآراميين، وما زالوا يتحدثون السِّريانية، وهم مِنْ أوائل الجماعات المسيحية بالعالم، حيث تبنوها منذ القرن الميلادي الأول، قبل أن تشيع كديانة رسمية بقسطنطينية بقرنين مِنْ الزَّمن. ساهموا مساهمة فعالة ببناء الحضارة التي يفتخر بها أهل العِراق. كانوا الأطباء والمهندسين، والمترجمين، ولم يستغن عنهم في زمان مِنْ الأزمان، لكلِّ هذا ستكون نكبةً حضارية عندما يخلو منهم العِراق.

إن التَّضامن، الذَّي شهدته بغداد مع مواطنيها المسيحيين، لا يترك شكاً في أن آلام هؤلاء الأُصلاء هي آلام بقية العِراقيين. ليس لي بوجود عمائم المسلمين، سود وبيض، في تشييع الضحايا بالعاصمة، إلى جانب عَمائم القساوسة حيث مصدرهنَّ واحد، وتفقد مكان الكنيسة، وما أصدرته المرجعيات الدَّينية، وما حصل مِنْ تضامن بالبصرة... كلُّ ذلك أوجب التَّذكير بما أُنشد في تكريم الأب أنستاس الكرملي العام 1928، وكان رئيس اللجنة جميل صدقي الزَّهاوي (ت 1936):

quot;وعشنا وعاشت في الدُّهور بلادُنا... جوامعـنا فـي جنبهن الكنائـس.. وسوف يعيش الشَّعبُ في وحدة له.. عمائمنا فـي جنبهـنَّ القلانـسquot; (لغة العرب). لكلِّ هذا يا نصارى العِراق المصير واحد، فلا تهتز عروقكم الضَّاربة في عمق التربة العراقية. فهذا بطريرك الكلدان الكاردينال عمانوئيل دلي، على الرَّغم مِنْ الفجيعة، أجاب إحدى الفضائيات، لعلمه أنها لم تكن حيادية تجاه ما جرى مِنْ العنف ببلاده، بالقول: quot;اتركوا بلدنا بأفكاركم السَّيئةquot;. والمعنى نحن باقون والمصير واحد. صحيح، شتان بين راية القتلة وراية السَّلام التي رفعها البطارقة العراقيون منذ القِدم، لكنها بلادهم، وأولئك الدُّخلاء!