عبدالوهاب بدرخان


كان مسيحيو العراق يلوذون، تاريخياً، بالدولة. فهم أقلية، ولا حكمة في أن يتخذوا مواقف فئوية في حمأة الاستقطابات الداخلية. وفي أي حال لم تكن هناك استقطابات مربكة خلال عهد النظام السابــق، لــذا اعتــبروا اعتــباطاً من أجنحته، أو متعاونين معه، لكنهم كانوا يتعاونون مع الدولة القائمة، ولا يعني ذلك أنهم لم يكونوا يعرفون علـــلها واستبداديتها، غير أن هذا هو الخيار الوحيد المتاح أمامهم، وإلا لكان ذلك النظام سحقهم وأجهز عليهم، كما يحاول فرع تنظيم laquo;القاعدةraquo; العراقي اليوم، وهو المسمى laquo;دولة العراق الإسلاميةraquo;.

بعد الغزو والاحتلال لم يدرك الأميركيون انهم إزاء صراعات طائفية ومذهبية إلا بعدما دخلوا هم أنفسهم في أتون الاقتتال، بل بات على الغزاة أنفسهم أن يحسموا أمرهم بتأييد فئة ضد فئة.

ولم يفطنوا طبعاً الى الأقليات لأنهم كانوا يبحثون عمن يساعدهم في استيلاد نظام جديد من حطام الدولة والنظام السابقين.

لم يرَ الأميركيون أنهم معنيون بحماية المسيحيين، كما اعتبرت تركيا مثلاً أنها معنية بأمن التركمان وسلامتهم، أو كما تصرفت إيران ليس فقط لضمان الشيعة وإنما للتأكد من أنهم سيتمكنون من الهيمنة على النظام الوليد.

أما الأكراد فكانوا توصلوا الى الاعتماد على الذات، لكن مع ضمانات أميركية قوية لا تزال سارية. وأما السنّة فكان عليهم أن يتقبلوا حقيقة انهم الخاسر الأكبر من تغيير النظام، وإذ راحوا يستنهضون النفوذ العربي التقليدي في الدول المجاورة، فإنهم عانوا أيضاً الصدّ الأميركي لهذا النفوذ متوازياً مع صدّ آخر من قوى laquo;العراق الجديدraquo;.

في معمعة الاقتتال الطائفي والانتخابات، المقاومة والإرهاب، وصراع الدولة المركزية المستعادة رمزياً مع دويلات المناطق في إطار السعي الى الفدرلة، فتحت ثغر كثيرة وخطيرة للتعرض للأقلية غير المتمتعة بأي حماية أو حصانة، فعانى المسيحيون منذ عام 2004.

فخسارتهم الكبرى هي ذاتها خسارة جميع العراقيين الكبرى، وتتمثل في أن الدولة لم تولد بعد، لا تزال غائبة، لا تزال طموحاً في طيات الغيب.

وعلى افتراض انها ستقوم بالملامح التي تظهر عليها اليوم، فإن حماية الأقليات ستكون آخــر همــومها، لأن شخوص هذه الدولــة جــاؤوا من تــجارب سياسية فئوية لا علاقة لها بمفهوم laquo;الدولة لــكل مواطنيهاraquo;.

لم ينفرد تنظيم laquo;دولة العراق الإسلاميةraquo; في استباحة مسيحيي العراق، وإن كان جعل منهم أخيراً هدفاً معلناً لإرهابه، بل شمل معهم أقباط مصر للدلالة الى ارتباطه بالتنظيم الأصل الـ laquo;بلا حدودraquo;، ففي الأعوام الستة الماضية شهد مسيحيو العراق تجرؤات على أمنهم وأمانهم من عصابات سرقة وإجرام وابتزاز، والأخطر أنهم ارتابوا في كثير من الأحيان بأدوار تواطأت أو تورطت فيها قوى وأحزاب ذات امتدادات في النظام الجديد، ولم يجدوا في بعض الأحيان سوى اهتمام شكلي أو حتى لا مبالاة من المؤسسات الأمنية.

ولم تكن الاتهامات بالإهمال غداة مجزرة كنيسة سيدة النجاة (الأحد 31/10/2010) إلا تسجيلاً لواقع، خصوصاً ان الأجهزة الأمنية كانت على علم بوجود تهديدات صريحة باستهداف المسيحيين.

ولا شك في أن وقائع التواطؤ والتورط المباشر المتنكر بـ laquo;القاعدةraquo; تحتاج الى فتح تحقيق جدي لتحديد المسؤوليات ومعاقبة المجرمين الذين يفترض انهم تحركوا بأوامر من جهات ميليشيوية ذات علاقة بـ laquo;الدولةraquo;.

ولكن أحداً لا يريد محاسبة أحد، على ما أظهر التعامل غير السوي مع ما كشفته وثائق موقع laquo;ويكيليكسraquo; عن ارتكابات جيش احتلال يسعى الى التطهر من ذنوبه بالانسحاب، وكذلك ارتكابات ميليشيا رئيس الوزراء سيُكافأ بتثبيته في منصبه.

عملياً التقت قوى laquo;النظام الجديدraquo; على اختيار مسيحيي العراق ضحية ثانية لسقوط النظام السابق بعد السنّة، أي على الانتقام منهم لأنهم تعايشوا مع نظام صدام حسين.

وبدا واضحاً ان جيش الاحتلال لم يهتم أو غضّ النظر، على رغم علمه ndash; وعلم خبراء الأمم المتحدة ndash; أن المناطق التي يقطنها المسيحيون تقع إما في وسط ما هو متنازع عليه أو على تخومه، وبالتالي فإن توترات النزاع ستشكل ضغوطاً هائلة عليهم.

لذلك بدأت باكراً قوافل الرحيل، بدأت صامتة وغير ملحوظة بالقادرين الذين استعدوا لمثل هذا الاستحقاق المصيري فأسسوا ملاذات في لبنان وسورية والأردن، وبدرجات أقل في عواصم الخليج، ثم تواصلت مع شبه القادرين الذين فتحت أمامهم أبواب الهجرة الى أوروبا وكندا، ولعلها ستستمر الآن بعدما أصبحت تصفية الوجود المسيحي في العراق مجرد مسألة وقت، ليس فقط بفعل جرائم القاعدة، وإنما خصوصاً بفعل غياب الدولة وانشغال أطرافها بغنائمهم غير مبالين بما يعنيهن تاريخياً وحضارياً وإنسانياً، رحيل مواطنيهم المسيحيين قسراً. على أنه يعني أولاً وأخيراً ان هذه الدولة التي يدّعون بناءها على أساس ديموقرطي، لا تحتمل التعددية ولا تعترف بها أساساً، وبالتالي فلا يمكن الاستمرار في الكذبة الى ما لا نهاية.

جاء هذا التفجر المأسوي لمسألة المسيحيين في العراق، وكأنه laquo;رد إسلاميraquo; على الروحية التي حرص laquo;سينودس الشرقraquo; على إشاعتها غداة انتهاء أعماله في الفاتيكان قبل أيام من مجزرة الكنيسة في بغداد. كان السينودس أشار تحديداً الى معاناة المسيحيين أولاً من تراجع الدولة أو ضعفها وغيابها.

وإذ جاء الرد من laquo;القاعدةraquo;، فهذا لا يشي فقط بأن التنظيم الإرهابي بات قطب الندّية في laquo;صراع الحضاراتraquo; بل أصبح قادراً على حجب laquo;الدولةraquo; والحلول مكانها مستخفاً بكل منظومات القيم التي أمكن المجتمع البشري أن يبلورها.

وبذلك يثبت الإرهاب القاعدي انه الوريث الشرعي لمختلف الاستبدادات والانهيارات الأخلاقية والقيمية التي أصابت laquo;مؤسسة الدولةraquo;، وفي ما يخص العراق يتبين أكثر فأكثر أن صراع الميليشيات الخاصة بالأحزاب مع جماعات الإرهاب بات متحكماً بتخليق الدولة الجديدة حيث الأولوية لتحاصص الأرض والدولة والمؤسسات بين المذاهب والإثنيات. ولا عزاء لمن لا يملك ميليشيا في مثل هذا البلد.

في الآونة الأخيرة تداعت الأزمتان العراقية واللبنانية الى مقارنات متفاوتة الدقة. ولعل الفارق في حال المسيحيين انهم في العراق انتظروا عودة الدولة ليتعاملوا معها، ويبدو الآن انهم قد يئسوا منها لا بسبب حادثة أو حتى سلسلة حوادث تعرضوا لها، وانما لأن ملامح هذه الدولة لا تطمئن مسلمي العراق قبل أن تطمئنهم. أما في لبنان فهناك دولة تعاني من انقسام المسيحيين حولها على رغم حاجتها اليهم. وفي laquo;النداء من أجل لبنانraquo;، الذي صدر بعد اللقاء المسيحي الأخير في المقر البطريركي لفتت مناشدة للمسيحيين laquo;الى استعادة الدور الذي لعبوه والانضواء تحت الثوابت للكنيسة وتحمل مـسؤولياتهم التـاريخية في الدفاع عن لبنان الكيانraquo;.

وكذلك الدعوة الى laquo;الشركاء في الوطنraquo; للعمل معاً وlaquo;العودة الى الدولة بشروطها لا بشروط طائفة أو حزبraquo;.

ففي اصطراع الطوائف والأحزاب تهميش للدعوة ودعوة صريحة وملحّة لشيوع الإرهاب وسيادته.