بغداد بين اتفاق الداخل والخارج... على المحاصصة!

جورج سمعان
الحياة
ليس سهلاً اعتبار بداية التسوية في العراق انتصاراً كاسحاً لإيران، وإن بدت هذه أنها القوة الاقليمية الأقدر على ملء الفراغ الذي قد يخلفه الأميركيون السنة المقبلة بعد استكمال سحب قواتهم. وإن برهنت أنها كانـــت فعلاً سباقة في الالتحاق بالقوات الغازية في الأعوام الأولى التي تلـــت سقوط نظام صدام حسين كأنها تستعد لخلافته. فلو كانت لها وحدها الكلمة الفصل لما طال أمد الأزمة ثمانية أشهر. بل لما كانت فشلت في تطويع الكيانات الشيعية التي اتكأت عليها أساساً لترسيخ نفوذها، ودفعها إلى خوض الانتخابات الأخيرة في قائمة واحدة. بل لما كانت فشلت في دفع هــذه الكيانات إلى تقديم مرشح واحد لتولي رئاسة الوزراء. ولما كان مرشحها المفضل اضطر إلى القيام بجولة عربية وتقديم ما يلزم من تعهدات والتزامات لتسويق ترشيحه، بدءاً بسورية وانتهاء بمصر!
هناك بالطبع أسباب عدة لهذا التعثر إن لم نقل الفشل. بعضها يتعلق بالسلطة التي مارسها نوري المالكي، سياسياً وعسكرياً، وكادت أن تلغي باقي القوى الشيعية. وبعضها الآخر يتعلق بهذه القوى نفسها التي وجدت في أطراف اقليمية سنداً يمكن أن تخفف عبره وطأة اليد الإيرانية، فضلاً عن تاريخ طويل من الندية والتنافس والخصام بين البلدين الجارين.
منذ البداية، لم تخف إيران رهانها على انتصار كبير في الانتخابات النيابية الأخيرة يجعل العراق ورقة مساومة بيدها في إطار السعي إلى تسوية الموضوع النووي مع الولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى. سعت جاهدة بلا جدوى لتوحيد الكيانات القريبة منها تقليدياً. وتدخل الرئيس محمود أحمدي نجاد علناً بالدعوة إلى العمل من أجل عدم عودة البعثيين إلى الحكم. ولم تتأخر laquo;هيئة المساءلة والعدالةraquo; في استجابة النداء... وحرمت عدداً كبيراً من الشخصيات من حق الترشح بدعوى أنهم بعثيون يجب laquo;اجتثاثهمraquo;. وكان الهدف دفع قوى وأحزاب وكيانات إلى المقاطعة. وهذا ما لم يتحقق. بل تحقق العكس وهو فوز الائتلاف المناوئ (العراقية) بالمركز الأول.
لكن هذه laquo;الاخفاقاتraquo; التي منيت بها إيران في الانتخابات قابلتها قدرة على تعطيل أي حل للأزمة الحكومية. وهو ما استنفـــد ثمانية أشهر من الجهود. وإذا كانت لها أخيراً الكلمة الأعلى في laquo;فرضraquo; نوري المالكي المرشح الأول لرئاسة الحكومة - وهو ما تحقق - فإن ذلك لم يمر من دون تســـويــة تراعي رغبات خصومها فـــي الساحة العراقية، وعلى رأسهم الولايات المتحــــدة التي فعلت، منذ اليوم الأول للحملة الانتخابية، ما فعلته الجمهورية الاسلامية: رفعت وتيرة التحذير مـــن التدخل الإيراني السافر في الانتخابات، وألقت بثقلها خلف قائمة laquo;العراقيةraquo;، وتدخلت لرفع سيف laquo;هيئة المساءلة والعدالةraquo; بالحملة على رئيسها وأعضائها، ونجحت في اقناع المتضررين مـــن قراراتها بعدم مقاطعة الانتخابات. لكنها هي الأخرى لم تحقق الانتصار المطلوب، أو بالأحرى لم تمن بالهزيمة الكاسحة.
جاءت النتائج إذاً لتفصح عن صيغة laquo;لا غالب ولا مغلوبraquo;. لذلك إذا قدر للاتفاق الذي رعاه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، وأقره البرلمان قبل يومين، أن يصل إلى خواتيمه المرجوة، وإذا قدر للقادة العراقيين تجاوز تعقيدات توزيع المقاعد والحقائب الوزارية بسلام، تكون هذه الصيغة هي التي غلبت، وحملت معها مجدداً صيغة laquo;المحاصصةraquo; إلى صدارة المشهد كما كانت الحال مع الحكومة السابقة.
انطلاقاً من هذا الواقع لم تتأخر واشنطن في مماشاة الرغبة الإيرانية في التجديد لزعيم laquo;دولة القانونraquo; ولاية ثانية... ولكن مع تقاسم للسلطة مع زعيم laquo;العراقيةraquo; الذي لم تخف طهران خصومتها له ورفضها توليه رئاسة الوزارة الجديدة. أبعد من ذلك، قدم زعيم laquo;دولة القانونraquo; الكثير من الضمانات والتنازلات، سواء إلى خصومه في الصف الشيعي وعلى رأسهم التيار الصدري، أو خصومه الاقليميين وعلى رأسهم سورية. كما أن جولته على بعض العرب كانت من باب تقديم ضمانات ووعود. ولكن السؤال: هل يلتزم نوري المالكي هذه الوعود أم أنه سيتجاهلها كما فعل في الولاية السابقة ودفعت به إلى خصومات غير قليلة مع بعض الجيران؟
إضافة إلى ذلك تؤمن الولايات المتحدة بأن استمرار العملية السياسية في العراق وحدها الضمان الحقيقي لاستمرار الحد الأدنى من الأمن. وهو ما يوفر انسحاباً هادئاً لما بقي من قواتها العام المقبل بعد انسحاب أكثر من ثلثيها وإنهاء المهمات القتالية لنحو مئة ألف جندي في آب (أغسطس) الماضي. كما أن استمرار العملية يضمن إلى حد كبير بقاء العراق بمنأى عن تهديد جيرانه، والأهم أن يبقى بعيداً عن معادلة الصراع العربي ndash; الإسرائيلي. كما أن واشنطن لم تجد في المالكي طوال ولايته الأولى ما يشكل أداة عرقلة لبعض قراراتها وتمنياتها. كما أنها تعول في النهاية على ضبط إيقاعه بواسطة الأكراد الذين تحولوا بيضة القبان في العملية السياسية.
ومن أجل الحفاظ على الحد الأدنى من توازن المصالح بين الولايات المتحدة وإيران، اقترحت واشنطن انشاء laquo;المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجيةraquo; ودفعت علاوي إلى التنازل عما كان يعتبره حقه الدستوري في تشكيل الحكومة إثر خروجه الفائز الأول من الانتخابات، على أن تُسند إليه رئاسة هذا المجلس. ونص الاتفاق الذي رعاه بارزاني على أن يحصل المجلس الجديد على صلاحيات تنفيذية تحد من الصلاحيات المطلقة للحكومة، خصوصاً في مجالي الأمن والسياسة الخارجية.
لكن قائمة laquo;العراقيةraquo; وحلفاءها يخطئون إذا ظنوا أن رئيس الحكومة ومن يدعمه سيرضون بأن يتحول المجلس الوطني هذا إلى قيادة تنفيذية منافسة أو موازية تماماً كسلطة تنفيذية لسلطة رئاسة الحكومة. لو كان الأمر سهلاً إلى هذا الحد لما كان هناك معنى لهذا الخلاف الذي طال ثمانية أشهر. بمعنى أن اقتسام السلطة بين رئاسة الحكومة ورئاسة المجلس أمر لن يمر بسهولة. بل يكاد يكون مستحيلاً أياً كانت النصوص التي قد يعتمدها مجلس النواب في إنشاء هذا المجلس.
إن العلاقات المتوترة بين الكيانات العراقية، وطريقة اقتسام السلطة بينها تجعل الاتفاق هشاً، وستدفع laquo;المستضعفينraquo; فيه إلى طلب العون من الخارج عند كل منعطف أو استشعار بالخطر الوجودي. فهل يعقل مثلاً أن يقبل الأكراد بالمساس بالمصالح الأميركية أو التركية أو الغربية عموماً للتسليم بالقبضة الإيرانية العليا؟ وهل تقبل الكيانات السنية التي توكأت على الدعم الأميركي الواضح في السعي إلى المشاركة السياسية بالتخلي عن هذا السند؟ يبدو الأمر ساذجاً.
تظهر التسوية التي اعتمدت للخروج من المأزق في العراق استمرار كل من واشنطن وطهران في laquo;التفاهمraquo; على مراعاة مصالح كل طرف للطرف الآخر، وإن من دون حوار مباشر أو غير مباشر. وهو ما جعل الأطراف العربية وغير العربية التي كانت تعول على أداء دور أكبر في هذا البلد، تكتفي باللحاق بهذا laquo;التفاهمraquo; للحد من الخسائر.
يبقى أن laquo;حكومة المحاصصةraquo; الجديدة لا يمكن، في ضوء laquo;المحاصصةraquo; الخارجية أن ترسم الدور الاقليمي المطلوب من العراق أداؤه. إن اختلاف الكيانات العراقية على الموقف من المتصارعين على أرض بلادهم، ومن الجيران الأقربين والأبعدين، يجعل من الصعب توافقهم على سياسة خارجية وأمنية واحدة. وهو الدور المطلوب من laquo;المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجيةraquo; اقتراحه على الحكومة! فإذا كانت واشنطن عاجزة عن إلحاق العراق بالمحور الذي تشتهي في المنطقة، فإن الرئيس نجاد لن يستطيع أيضاً ضمه إلى laquo;جبهة مقاومة الشعوبraquo;. لذلك ستبقى بغداد رهينة التوازنات الخارجية التي أملت الاتفاق، وإن كانت الولادة كردية.
العراق غني جداً... وكذلك نيجيريا !
سركيس نعوم
النهار اللبنانية
الفيديرالية في العراق المنصوص عليها في دستوره هي حل يحفظ وحدة الدولة في رأي أحد أقرب الناس سياسة وعملاً ونسباً الى زعيم التجمع الشعبي الكبير يمكن وصفه بالمستشار الذي كان له دور مهم في مقاومة نظام صدام حسين وفي الوضع الذي نشأ بعد اطاحته. quot;وهي ليست تقسيماً بل حل يحول دون تقسيم العراق. والدول الفيديرالية في العالم موحدة في سياساتها المالية والنفطية والدفاعية والخارجية. وفي حال العراق لا بد من ضم السياسة النفطية الى مجموعة السياسات التي يجب ان تناط بالحكومة المركزية أي الفيديرالية لأن النفط هو عصب اساسي في العراق مثلما هو عصب السياسات والمصالح الاقليمية والدولية. كان السنّة - اضاف المستشار نفسه- ضد الفيديرالية في السابق ورغم وجود نص رسمي عليها في الدستور. لكنهم صاروا الآن معها لاعتبارات كثيرة متنوعة. والأكراد معها. والشيعة معها. فلماذا لا تُنفَّذ أو بالأحرى لا تُطبَّق؟ حكومة الشراكة الوطنية ضرورية لأنها تؤمّن تمثيل كل مكوّنات الشعب العراقي في السلطة ومن خلال ممثليها الفعليين. لكن ربما مستقبلاً يجب ألا تبقى المكوّنات (أي الطوائف والمذاهب والاتنيات) quot;بلوكاتquot; أي كل منها مجموعة واحدة. اذ من شأن ذلك ومع الوقت تعطيل المؤسسات. وهذا يعني ضرورة أن يكون في كل مكوّن أكثر من حزب واحد أو تيار سياسي واحد أو جهة سياسية واحدة. الشيعة العراقيون الآن تستقطبهم أحزاب واتجاهات شيعية عدة. والاكراد كذلك. والسنّة بعد اطمئنانهم الى مشاركتهم في السلطة والى اهمية دورهم في البلاد سيتوزعون على أكثر من اتجاه او حزب سياسي. في أي حال العراق بلاد غنية جداً. وفيها مصادر ثروة طائلة وستعود ذات وفرة اقتصادية كبيرة. ولذلك لا خوف عليهquot;.
علّقت على ذلك: لا أحد يشك في غنى العراق وثرواته المتنوعة. لكن ذلك لا يشكل ضماناً لأن يكون دولة قادرة ومكتفية ومستعدة لمواجهة تحديات المستقبل على تنوعها. وابرز مثل على ذلك هو دولة نيجيريا الغنية جداً في افريقيا ولكن التي يعيش شعبها في فقر مدقع، طبعاً باستثناء حفنات صغيرة من المسؤولين المدنيين والعسكريين ورجال المال والاعمال الذين يستغلون السلطة للاثراء، بالتعاون مع الاجانب العاملين في بلادهم افراداً وشركات. وهذا الفقر زعزع بعد الاقتصاد الأمن في نيجيريا وقد يضعها في يوم ما على عتبة حرب أهلية جديدة. طبعاً وافق المستشار نفسه على ما قلت وأعرب عن أمله في نجاح العراق في تلافي التحول نيجيريا عربية. ثم اشار في معرض الحديث عن الأزمة الداخلية ومحاولات حلها منذ أكثر من ثمانية أشهر الى مجلس تخطيط السياسات (صار اسمه بعد التفاهم المبدئي الاخير عليه المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية) فاعتبر انه خطوة قد تكون ضرورية ليس فقط لتأليف حكومة الشراكة الوطنية بل ايضاً لنجاحها في القيام بعملها. ومن شأن quot;المجلس الوطنيquot; المشار اليه مساعدة مجلس الوزراء في التخطيط. ونجاحه في ذلك يتوقف على كونهمُمثِّلاً لكل مكوّنات الشعب العراقي. علّقت على ذلك بكلام كنت قلته لمسؤول سابق التقيته قبل ذلك مفاده ان حصر التخطيط ورسم السياسات بـquot;المجلس الوطنيquot; يعني انه صار أهم من مجلس الوزراء الذي ستنحصر مهمته بالتنفيذ. علماً ان هذا الأخير برئاسته الشيعية وبكونها الموقع الأقوى في دولة العراق الجديد وكون الشيعة غالبية يفترض ان يكون السلطة الأولى في الدولة عملياً والمؤسسة الأولى. وأمر كهذا سيوقع المجلسين في تناقض صلاحيات، ولاحقاً في تناقض أثني أو مذهبي، اذ من يضمن ألا تطالب مكوّنات أخرى عراقية غير الشيعةبترؤسه.
وختمتُ هذا التعليق قائلاً انه من الممكن ان تكون داخل الحكومة وزارة تخطيط مهمة جداً وفاعلة جداً. رد المستشار اياه: quot;ينص الدستور العراقي على وجود مؤسسة دستورية لم تنشأ الى الآن هي quot;المجلس الاتحاديquot; وهو مجلس مماثل لمجلس الشيوخ في أميركا او في الدول الفيديرالية وحتى غير الفيديرالية. وغالباً ما يقوم هذا المجلس بالتدقيق الذي يفترض ان يقوم به قريباً في بعض مهماته quot;المجلس الوطني لرسم السياساتquot; ربما بعد انشائه تزول كل المخاوف والاخطار التي اشرت اليهاquot;. رددت: انا معك في ذلك. ولكن تلافياً لمشكلة منذ الآن يمكن القول وفي نص انشاء quot;المجلس الوطني quot;انه يتوقف عن العمل بعد قيام quot;المجلس الاتحاديquot;، وان وزارة تخطيط قد تحل مكانه عندئذ. ثم تناول الحديث مع المستشار موقف الدول العربية اجمالاً من الفيديرالية في العراق. فأشارالى انها كلها او ربما معظمها، لم تتحمس لها ربما لأنها تخاف عدواها. وختم بحديث جرى بينه وبين محمد داود اوغلو وزير خارجية تركيا سأل فيه الأخير: quot;لماذا طالت أزمتكم الحكومية كثيراً؟ ولماذا لا تحلّونها في سرعةquot;؟ كان جوابي: اوقفوا تدخلكم فيهاquot;.
ماذا في جعبة برلماني نشِط خبير في الشؤون الخارجية، وفي الصيغ الدستورية، وفي هندسة التحالفات السياسية، وعضو بارز في التجمع الشيعي الكبير الذي كان له دور مهم في معارضة عراق صدام وفي العمل مع الآخرين لبناء عراق ما بعد سقوطه، ماذا في جعبته عن العراق ومستقبله؟