سركيس نعوم

- 1 -

لم أزر دولة العراق قبل يوم الأحد 31 تشرين الاول رغم انطلاقي في عملي الصحافي في جريدة quot;النهارquot; منذ ربيع عام 1974. ولم تقم بيني وبين ممثليه الديبلوماسيين في بيروت كما مع مسؤولين سياسيين في بغداد أي نوع من العلاقة، واسباب ذلك كثيرة ومتنوعة، منها انني كنت في بداية مشواري المهني، وكنت لا ازال في حاجة الى اثبات جدارتي قبل ان الفت انتباه كل هؤلاء، وتالياً قبل ان افتح شهيتهم لاقامة علاقة مشابهة لتلك التي قامت مع الكثيرين.
ومنها أيضاً، عدم حماستي بعدما بدأتُ اثبت احترافي في المهنة لإرساء علاقة مع بلاد مضطربة وquot;قاسيةquot; وعنيفة، وانْ كريمة جداً وبلا حساب.
ومنها ثالثاً، حرصي الدائم على استقلاليتي التي لم تكن يوماً على حساب رأيي وموقعي، وخوفي عليها وعلى نفسي من التورط من حيث لا ادري في صراعات المحاور العربية وانعكاساتها اللبنانية. وقد عزَّزت موقفي هذا تجربة عشتها اثناء الحرب يوم فشل زميل في quot;بيعيquot; الى سفير للعراق quot;السابقquot; في بيروت، الأمر الذي اقنعني بصواب موقفي.
ومنها رابعاً واخيراً، حرصي على عدم الدخول في مواجهة مع quot;الوجودquot; السوري الامني والعسكري والسياسي في لبنان رغم عدم موافقتي كمواطن على الكثير من ممارساته.
الا ان عدم زيارة العراق لا تعني انني لم أعرف في سنوات مراهقتي عن العراق، ففي أواخر النصف الثاني من الخمسينات كانت لوالدي ووالدتي، رحمة الله عليهما، علاقة صداقة بزوجين عراقيين لم يرزقا اولاداً نشأت اثناء ترددهما على لبنان لقضاء فصل الصيف وكذلك للعمل. وقد احبتني هذه العائلة، التي لا ازال احفظ اسم quot;ربهاquot; شهاب أحمد الرشيد ولا تزال صورتها محفورة في قلبي وعقلي، الى درجة دفعتها الى محاولة اقناع والدَيَّ بالعيش معها في بغداد مع استمراري ابناً لهما، وبتعهد ارسالي الى ارقى المدارس ثم الجامعات في العالم لأتابع تحصيلي. وغني عن القول ان تلك العائلة كانت ميسورة، وما عرفته منها عن العراق لم يكن له علاقة بالسياسة، بل بالحياة وحبها وبالكرم والصداقة والوفاء والتهذيب وأحياناً بالقسوة والرغبة في العلم والاطلاع.
كيف كانت زيارتي الأولى للعراق ذلك الأحد؟
لبّيت دعوة كريمة من quot;المجلس الاعلى الاسلاميquot;، أحد أركان الدولة الجديدة في العراق، علماً انها لا تزال قيد الانشاء. واستمرت زيارتي قرابة ستة أيام قابلت خلالها في العاصمة بغداد شخصيات رسمية ومسؤولة، وأخرى تتعاطى الشأن العام من مواقع إما حزبية أو ثقافية او تشريعية. وزرت خلالها ايضاً النجف الاشرف (شعرت انني ازور التاريخ) قبلة الشيعة في العالم ولا سيما العرب منهم، وحظيت بشرف لقاء أحدهم فكان حوار شامل وجامع ومانع ومفيد وممتع تمَّ الاتفاق على ابعاده عن النشر، لأن quot;النجفquot; لا يتعاطى السياسة التفصيلية والتنفيذية، ولأن تجربة سابقة حصلت بين المرجع الأعلى فيه وزميل جعلت الهيئة المرجعية الرباعية اذا جاز التعبير على هذا النحو quot;تنقزquot; من الاعلام اللبناني وتقرِّر الابتعاد عن اللقاءات الصحافية التي هدفها النشر. وكي لا يتبادر الى ذهن أحد ان زيارتي كانت حزبية أو فئوية، نظراً الى الجهة التي أعدَّت لها، اسارع الى القول بكل صدق ان الذين تعاطوا مع تفاصيلها التنفيذية واللوجستية في بغداد قاموا بكل الاتصالات كي تكون لقاءاتي ndash; غير الهادفة الى اجراء مقابلات صحافية رسمية ndash; شخصيات مهمة وفاعلة من كل مكوّنات الشعب العراقي، وألحّوا في طلب المواعيد ونجحوا في تنظيم غالبيتها. اما الباقي فلم يتيسر لضيق الوقت او لقصر الزيارة او لتضارب المواعيد. لكنني آسف لعدم تمكني من لقاء مُمثِّل للمكوِّن الكردي في العراق، وكذلك لشخصيتين هما طرفان مباشران في الصراع السياسي الدائر.
الا ان ذلك على أهميته لم يؤثر كثيراً على شمولية الصورة التي كونْتُها عن العراق الذي هو في مرحلة التكوين منذ اطاحة نظام صدام حسين. وهي مرحلة يبدو انها ستطول لاعتبارات كثيرة سنتعرض لها لاحقاً في quot;سلسلةquot; غير طويلة من quot;الموقف هذا النهارquot; ابتداء من يوم غد الثلثاء. علماً ان لا ضير من ذكر عناوين هذه الاعتبارات، وهي: الصراعات الداخلية، سواء داخل الطائفة الشيعية لأسباب ومصالح شخصية، او لاختلاف في الرؤى والمشروعات السياسية، علماً ان ذلك لا يعني عدم وحدة اصحابها (رؤى ومشروعات) حول حقوقها المهضومة في العراق منذ الاستقلال. والصراعات داخل أكراد العراق، رغم تمسكهم بوحدة الحد الأدنى حفاظاً على مكتسباتهم المعروفة، أو داخل الطائفة السنية رغم وحدتها العملية في مواجهة ما تعتبر انه استهداف لها ولدورها.
وهي ايضاً صراعات الخارجَيْن الاقليمي والدولي على العراق ونجاحهما في اجتذاب جهات عراقية متنوعة كل الى صفه لاعتبارات تشابه الاعتبارات التي دفعت quot;الاطراف اللبنانيينquot; الى التوزع في الاصطفاف وربما في الولاء على الجهات العربية والاقليمية والدولية المعروفة. والاعتبارات هي ايضاً عدم حسم الكثير من القضايا التي لا يمكن بقاء الدولة من دونها، وابرزها على الاطلاق المشاركة في السلطة بين كل مكوّنات شعب العراق، وعلى اي اساس، وبأي نسب، والحرص على ألا يتسبب ذلك بتعطيل المؤسسات وتالياً الدولة. وهذه من الاسباب التي تعوق التفاهم على شخص رئيس الحكومة وتالياً رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التشريعي ونوابهم ربما اكثر من التدخل الخارجي.
في اختصار، وقبل ان ابدأ غداً الحديث عن الحوارات والمناقشات التي دارت في لقاءات بغداد والنجف، ارى من واجبي ان اشير الى امرين. الأول، وهو معروف لكنني اشدد عليه، وجود نخبة عراقية ممتازة من كل المكوّنات التي كان لي شرف التحاور مع بعضها بدعوة من صديق قديم. والثاني، ولم يكن معروفاً لدى كثيرين، هو أن من يزور العراق اليوم بعد انقطاع عنه منذ عقود على ما روى لي صديق زاره آخر مرة عام 1972، يؤكد انه شهد اهمالا كبيراً في كل القطاعات، رغم الحديث الكثير عن انجازات المراحل السابقة وخصوصاً على صعيد البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية والخدماتية والكهربائية والمائية والطرق، وكذلك شهد إحجاماً عن التنمية.
شهد العراق في الماضي امناً مضبوطاً بالقمع والاستخبارات والظلم، وهو يشهد اليوم امناً فالتاً وارهاباً وعدم استقرار.