بينة الملحم

في الأوساط الأصولية والجماعات المسلّحة نشهد نموّ أساليب العنف وتجدّدها، من كان يتوقّع أن يكون ضمن تكتيكات القاعدة هدم البرجين! أو توزيع الطرود! . ربما هو الحصار الدولي على هذه الجماعات التي تأخذ أساليب عنيفة غير متخيّلة أو متوقعة.

تاريخ الأصولية الدينية منذ عصور الحشاشين وإلى اليوم هو تاريخ laquo;العنف اللامفهومraquo; الذي يضرب من دون رادع. التنظيمات الأصولية ومع دخول القرن الحادي والعشرين أخذت تنوّع في طرق الاستهداف لأنها ترغب بكل ما أوتيت من قوة أن تخرج من أسيجة الحصار عبر ثقوب اللامتوقع.

يشير laquo;جوزيف مايلا laquo;مدير مركز الأبحاث حول السلام إلى ظاهرة الاستهداف القائمة على العمل العنفي laquo;غير المفهومraquo; مشخصاً حالات التحوّل في تاريخ الأصولية الدينية مع العنف فيقول: laquo;هنالك نقلة واقعية في طبيعة العنف فرضت نفسها بشكلٍ مفاجئ على الصعيد التاريخي البحت، فبعد أن كان العنف متموضعاً ومنحصراً في دولٍ معيّنة انبثق هذه المرة بمستوى غير معهود من حيث الاتساع laquo; .

فمستوى العنف واتساع دائرة الاضطرابات والتغيّر المفاجئ في مواجهة غامضة مع قوى غير مرئية، كل ذلك يشير إلى قطيعة أو إلى خطٍ حدودي فاصل بين laquo;قبلraquo; وraquo;بعدraquo; لا نميّز معناهما للوهلة الأولى ومن هنا يأتي في مقام ثانٍ البُعد المقابلي

(a priori) الذي يتعذّر سبره لواقعة سياسية تشبه عملاً حربياً أو عملية إعلان حرب لا تحمل توقّي الجهة الفاعلة ولا تكشف عن مقاصد تلك الجهة ولا عن أهداف تلك الحرب .

أسّس العنف الأصولي الحديث لحالة العدو المختبئ؛ عدو بلا استراتيجيات أو مواقع محددة، وإنما هو عدو زئبقي ذائب، ليست له دولة محددة يتترّس بها، تُكتشف الخلايا في نيويورك ولندن ومدريد كما تُكتشف في إسلام أباد وكابول أو بغداد، اختبأ العنف الحديث تحت الأرض الاجتماعية واحتمى وراء يوميات الناس في الأسواق والطرق والبيوت، لم يعد العدوّ واضحاً، بات العدو عائماً تعجز صلابة السلاح عن إدراك موقعه الرئيسي الذي يمكّن القوى العسكرية الحكومية من استهدافه، ربما جاءت الجريمة بظرفٍ أو بجهازٍ خلوي.

عنف الأصولية الحديث لم يعد كما هي حال العنف القديم. ركبت الأصولية موجة الحداثة لتضرب الحياة الحديثة، ولتقطع صلة المجتمعات الحديثة بزمنها.

كانت الأصولية القديمة تتمركز في مكانٍ محدد، ولديها جداول معلنة واستهدافات محددة، لكنها اليوم غامضة عائمة، لا يمكن التنبؤ بوسائلها أو أهدافها، تضرب في كل اتجاه من دون أن يحسب العالم حسابه، ولأضرب على هذا مثلاً بتنظيم القاعدة؛ فبعد مرور اثنتي عشرة سنة على تفجير نيروبي (1998) نشهد تطورات في أساليب التنظيم من تفخيخ الشاحنات إلى تغذية الأجساد بالمتفجرات إلى استخدام الرسائل والطرود لضرب المستهدفين، وتدخلت تلك التطوّرات في تغيير أنظمة الشحن الجوي، ولا أبالغ إن قلت إن التنظيمات الأصولية باستراتيجياتها الغامضة هي التي حوّلت الحدود بين الدول إلى جحيم أمنيّ أزعج العالم. والحكومات بإجراءاتها معذورة لأنها تريد حماية الآمنين، وليست لديها احتمالات مرجّحة، كل أمرٍ وارد لدى هذه التنظيمات، وكل شيء مستهدف.

نحن إذن أمام عدوّ كالشبح صار غامضاً، عدوّ مختبئ، بلا استراتيجيات يمكن قراءتها أو توقعها أو مواقع يتمركز فيها، تنظيمات شيطانية مختبئة مندمجة مع المجتمع بحركته، في الأسواق والطائرات والسيارات والأماكن السياحية، في كل مكان يمكن أن تجد موقعاً غير متوقع لأي تنظيم أصولي، وهذه هي خطورة laquo;حداثة العنفraquo; الأصولي.

الأصولية التي تهاجم الحداثة صارت تحدّث وسائل دمويتها، وتجدد في أفكارها الرجعية المولودة من رحم ثقافات الموت. إنها الحداثة الموجهة ضد الحداثة.