هدى الحسيني

في قمة الحلف الأطلسي في لشبونة، وافقت تركيا على أن تكون جزءا أساسيا من شبكة الدفاع الصاروخية الباليستية.

هذا المشروع الأميركي يضع نصب عينيه مواجهة الخطر الإيراني (الصواريخ) وتوفير منصة أميركية لتضمن تجمعا أوراسيا لاحتواء النفوذ الروسي المتنامي في دول الاتحاد السوفياتي السابقة. وكانت الولايات المتحدة قد ضمنت التزامات ثنائية من بولونيا وتشيكيا وبلغاريا ورومانيا للمشاركة في المشروع، وظلت تركيا، بسبب موقعها الجغرافي، العنصر الأساسي لهذا المشروع.

من ناحيتها، وصلت تركيا إلى مستوى يسمح لها بتأكيد استقلاليتها في المنطقة، وقد أظهرت ذلك في المواقف العلنية ضد الولايات المتحدة فيما يتعلق بإسرائيل وإيران، وقد استثمرت كثيرا لتكسب ثقة طهران كي تكون الوسيط في صراعات إيران مع الكثير من الدول. كذلك تعتمد تركيا كثيرا على روسيا في إمدادات الطاقة، ولا رغبة لديها في إثارة منافستها التاريخية، خصوصا أنها تحاول جاهدة أن تعزز وجودها في دول القوقاز وآسيا الوسطى، حيث النفوذ الروسي ساطع.

لكن، كما يبدو، لجأت واشنطن إلى سياسة العصا والجزرة مع أنقرة، مما أعاد العلاقات الأميركية - التركية مرة أخرى إلى المسار الاستراتيجي، وشعرت أنقرة بأن الاعتبارات الاستراتيجية تفوق الأسباب التي تدفعها إلى مقاومة مشروع الدفاع الصاروخي.

السياسة التركية التي رسمها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو دفعت إلى تغيير في الاستراتيجية الوطنية التركية، وحسنت العلاقة مع الدول الإسلامية المجاورة، ودفعت إلى تدريبات عسكرية مع الصين، وإلى برودة في العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

كرد فعل على هذه الاستراتيجية، أقدمت واشنطن على سحب أغلبية دعمها الاستراتيجي لتركيا مع انسحابها من العراق، ولم تعد إدارة الرئيس باراك أوباما، وبالذات الكونغرس، تنظر إلى أنقرة كحليف يمكن الاعتماد عليه، خصوصا ضد سورية وإيران. واعترفت مصادر تركية بأن الرئيس أوباما حذر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من أن الإدارة الأميركية غير قادرة على أن تضمن تصدير الأسلحة الرئيسية الأميركية بسبب معارضة الكونغرس، بعد تصويت تركيا ضد العقوبات على إيران في مجلس الأمن، وبسبب سياستها العدائية تجاه إسرائيل.

وفي بداية هذا العام، أشارت الإدارة الأميركية إلى تحسن الوضع الاقتصادي في تركيا، فقررت وقف المساعدات العسكرية الأميركية لأنقرة، وفي شهر يوليو (تموز) الماضي، أقدم كبار أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب على تعليق طلب عسكري لتركيا يتضمن الحصول على طائرات الهليكوبتر laquo;الآباتشيraquo;، وlaquo;السوبر كوبراraquo; ومنصات أسلحة أخرى. وفي شهر أغسطس (آب) أبلغت واشنطن أنقرة بأنها لن تشارك في المناورات الجوية laquo;نسر الأناضولraquo;.

في هذه الأثناء كانت الاستعدادات قائمة لعقد قمة دول الأطلسي، في وقت ترغب أميركا، بشدة، في تخليص نفسها من الحربين في العراق وأفغانستان. وكما أن المصيبة تجمع، كذلك المصالح. رأت تركيا أن أمامها فرصة تاريخية لملء الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب الأميركي في العراق، فتستعيد نفوذها في الشرق الأوسط الأوسع. من جهتها، وبعد الخطوات التي اتخذتها، عادت لترى تركيا أنها تبقى الحليف القوي الذي تلتقي مصالحه مع مصالح واشنطن، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالحاجة لاحتواء إيران، وإدارة المشكلات الداخلية العراقية الشائكة، وانتزاع تعاون أكثر من سورية، والتوازن مع روسيا في القوقاز.

ورأت تركيا أنها إذا أرادت أن تحصد مكاسب جيوسياسية في المنطقة، فإنها لا تستطيع أن تتحمل تصدعا أكثر لعلاقاتها مع واشنطن برفض المشاركة في شبكة الدفاع الصاروخية الباليستية.

وبدأت الصحافة التركية تمهد للأمر، بالقول إن تركيا ستقبل بنظام الدفاع الصاروخي إذا كان أطلسيا وليس أميركيا، وإذا نشر هذا النظام في دول الأطلسي الـ27. وقال داود أوغلو: laquo;لن نقبل بحرب باردة أو نفسية حولناraquo;. وطالبت تركيا بأن تكون مسؤولة عن التحكم والسيطرة على الجزء الذي ينشر فوق أراضيها، وألا يأتي ذكر أي دولة (إيران، سورية أو روسيا) كمصدر للخطر. رفضت أميركا كل الشروط التركية باستثناء الشرط الأخير؛ لأنه واضح جدا ولا يحتاج إلى أي إشارة. وأبلغ مسؤولون أميركيون أنقرة بأن موافقتها على الاشتراك في هذا النظام ضرورية لتضمن تعاونا أميركيا في قضايا أخرى تهمها. كما أبلغت واشنطن أنقرة بأن رغبتها في تجنب أي مواجهة عسكرية في الخليج العربي بسبب طموحات إيران النووية، تتحقق إذا شاركت في الدرع الصاروخية التي ستضاعف من دفاعات المنطقة، وبالتالي تخفض الحاجة إلى عمليات عسكرية.

من الآن وحتى يونيو (حزيران) 2011، عند الانتهاء من بحث تفاصيل النظام الدفاعي الصاروخي وكيف سيتم توزيع السيطرة عليه، على أنقرة مهمة إقناع طهران بأن محافظة تركيا على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، هي أفضل عازل لإيران وحماية لها من أي هجوم. طبعا هناك الكثير من القيود لهذه الحجة، لكن إيران لن تغامر بالتضحية بحليف أساسي لها بينما التوتر يتصاعد بينها وبين الولايات المتحدة.

قد تواجه تركيا صعوبة أكبر في إقناع روسيا بأن موافقتها على المشاركة في شبكة الدفاع الصاروخية الباليستية تعتمد على النيات الحسنة. تركيا كانت بين الدول التي دعمت إشراك روسيا في هذه الخطة الأطلسية. روسيا وافقت على أن تبحث مشاركتها في الخطة. لكن من المستبعد أن تقبل واشنطن دمج روسيا في هذا النظام من حيث الرقابة التشغيلية أو الاعتراض على استخدامه.

ستحتاج تركيا إلى أكثر من مهارة داود أوغلو، وحذاقة أردوغان لحماية علاقاتها التجارية والاقتصادية مع روسيا؛ إذ مهما كثرت البيانات السياسية المنمقة، فإنها لن تخفي التعهد التركي بالمشاركة في مظلة دفاعية تضع الخطر الروسي نصب أعينها، إضافة طبعا إلى الخطر الإيراني.

ثم إن هناك أمرا آخر داخليا تركيا. فحزب التنمية والعدالة الحاكم في تركيا مقبل على انتخابات نيابية العام المقبل، إنه كان يحتاج إلى إبقاء التوتر في العلاقة بين أنقرة وواشنطن على الأقل لمدة سنة أخرى، كي يحافظ على كسب دوائره الإسلامية التي توافق على سياسته الموالية لإيران والمعادية لأميركا وإسرائيل. ثم إن حكومة أردوغان غاصت في تفعيل هذه السياسة إلى درجة أن أي محاولة للتخفيف منها، سترتد سلبا على التأييد الذي سيناله حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة.

عندما جرى التوقيع على الاتفاق في لشبونة، قال الرئيس التركي عبد الله غل: laquo;إن دول الأطلسي وافقت على الشروط التركية كلهاraquo;! وقال وزير خارجيته داود أوغلو: laquo;إن تركيا لم تجبر على هذا المشروع عكس إرادتهاraquo;. لكن، في النهاية وافقت ووقعت، وهذه المظلة الدفاعية تحمي تركيا ودول الشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل، من خطر أساسي قد تشكله الصواريخ الإيرانية.